محمد آل الشيخ
دأب كثير من طلبة العلم على استقاء مفاهيمهم، وما هو حلال وما هو حرام، من اجتهادات لرجال لم يتعايشوا مع عصرنا، ولا مع مفاهيمه، ولا مع بروتوكولاته التي تواضع الناس عليها، بل ذهب بعض الغلاة - للأسف - إلى الارتقاء ببعض اجتهادات السلف القريب والبعيد إلى مقام الدليل الشرعي القطعي الذي يسنده قول من الكتاب أو السنة، وهناك آخرون أقروا بعدم وجود النص في تحليل أو تحريم بعض الممارسات التي تحرم بعض التقاليد الجديدة الطارئة على المجتمع، لكنهم تذرعوا بما يسميه الفقهاء (سد باب الذرائع)؛ وغني عن القول إن هذا التوجه هو بمقاييس عصرنا قد يتسبب في تحريم المباح أو كراهيته، رغم أنه يقع فقهيا في منطقة (العفو) ابتداءا، ومن نافلة القول إن التوسع في هذا الباب والايغال في تطبيقه قد يجر إلى الغلو والتشدد، وينسف في نتائجه التسامح الذي يدعو إليه هذا الدين الحنيف، بل قد يؤسس للتطرف الذي كلفنا الكثير والكثير جدا في نتائجه النهائية، وكان باعثا من بواعث تفشي ظاهرة (الإرهاب) الذي يحاصره العالم أجمع من أقصاه إلى أقصاه.
أقول قولي هذا بعد أن امتنع رجلان، يقولون أنهما من المحسوبين على المؤسسة القضائية، امتنعا عن (الوقوف) احتراما للسلام، أو النشيد الملكي، مع أن الوقوف عند عزف النشيد أصبح تقليدا من متطلبات احترام الرموز الوطنية، وحسب ما فهمت أن السبب لرفضهما أنه لا يجوز، وقد يتزيّد البعض بالقول إنه يمس نقاء العقيدة. تسأل: وما هو الدليل؟.. فيجيبونك بقال فلان، وقال آخر، ومن المعروف عند علماء الأصول أن قول أو فعل أو امتناع الفقيه (يُستدلُ له ولا يستدل به)، وهذه القاعدة الدقيقة في تخصيصها أراها من القواعد التي أهملها كثيرون، خاصة من (الغلاة) الصحويين، فأصبح قول الفقيه، أو قول العالم، أو ما توصلت إليه (لجنة) من اللجان، يستدل بها، وكأنها في مقام الدليل المباشر من الكتاب والسنة، وهذا في تقديري من القضايا التي اكتنفت كثيرا من الأحكام الشرعية في المسائل المستجدة، خاصة هذه الأيام، وخلقت كثيرا من الهرج والمرج في مسائل دينية كثيرة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر هذه المسألة التي نحن بصددها هنا. والسؤال الذي يستدعيه السياق هنا هو: هب أن كبيرا في قومه، أو وجيها من وجهاء المجتمع، أو شيخا من كبار العلماء، دخل عليك وأنت جالس على أريكتك، هل ستقوم له من باب التقدير والاحترام؟.. أعتقد أن إجابتك ستكون: نعم؛ والسؤال الذي يأتي فيما بعد: هل في قيامك لهذا الرجل ما يستدعي تعظيمه تعظيما (قد) يجعله يرقى إلى درجة يمكن أن تمس عقيدتك، أو تشوه نقاء توحيدك لله جل وعلا؟.. أعتقد أيضا أن الإجابة ستكون قطعا: لا ، لأنك تمارس ذلك بتلقائية، ودونما تفكير من قبيل التقدير والاحترام، وليس ثمة أبعد من ذلك البتة. واحترام وتقدير الرموز الوطنية، كالعلم، والسلام الملكي، هو من هذا القبيل، ولا يخرج إطلاقا عن هذا البعد؛ وعلى ذلك يجب أن يجري القياس.
إن هناك كثيرا من البروتوكولات والعادات التي أصبحت من المسلمات اليوم، لم يتعايش معها، وربما لم يفهم أبعادها الرعيل الأول من السلف، ومعروف عنهم - رحمهم الله - التحوط، وعدم الإخلال بما قد يُفضي إلى المساس بالعقيدة. لذلك يجب علينا أن نقيس المستجدات حسب مقتضياتها، ولا نُحملها ما لا تحتمل؛ والأهم ألا نقدس كلام الفقهاء، ونعتبر اجتهاداتهم في حد ذاتها (دليل يُستدل به) مهما ارتفع مقامهم وعلت مكانتهم، لأن ما أهلك من كان قبلنا الإغراق في (الكهنوتية)، والتي هي إحلال قول الرجال محل النصوص عند الاستدلال.
إلى اللقاء