لبنى الخميس
كان يوماً صيفياً بامتياز.. والساعة تقترب من الواحدة والنصف ظهراً.. عدت إلى البيت بمريولي المدرسي الذي كان يغطي جسدي النحيل حينها.. استلقيت على الكرسي وإذ بهاتف المنزل يرن.. التقطت السماعة، وعلى طرفها الآخر صوت جديد يخاطبني قائلاً: هل هذا رقم منزل الكاتبة لبنى الخميس؟ فأجبت بحماس نعم نعم! أنا لبنى.. فأجاب: معك فلان من مكتب معالي وزير العمل الدكتور غازي القصيبي.. هل الوقت مناسب لتحادثي معاليه؟ لم أصدق أذني حينها.. إلا حينما تم تحويل المكالمة له، وإذ بصوت أعرفه جيداً.. رافق رقة أمسياته.. وقوة مقابلاته.. يحادثني من الطرف الآخر من السماعة.. أهلاً بك لبنى.. شكراً على المقال الذي نشرته عني اليوم في جريدة الجزيرة.. اسمحي لي أن أسألك كم عمرك؟ فأجبت بخجل عمري 14 سنة.. وقبل أن يغلق السماعة طلبت منه نصيحة أحملها معي طول العمر فرحاً وفخراً ممن كان لي رمزاً وإلهاماً وقدوة.. فأجاب: نصيحتي لك هي قبل أن تكتبي صفحة اقرئي 100 صفحة.
لم يخطر ببالي حينها وأنا ابنة الرابعة عشرة من العمر أن ذلك الصوت الرخيم.. سيظل يتردد في أذني لسنوات طويلة قادمة متجاوزاً كل حدود الزمن.. ليضيء طريقي البسيط ككاتبة صاعدة تبحث عن نور تهتدي به. حتماً.. لم أكن الوحيدة التي شكل لها أبو يارا مصدراً لا ينضب من الإلهام.. فالاسم الذي لا يغيب عن ذاكرة أكثر من 30 مليون سعودي لم يرتبط بلقب واحد أو دور يتيم.. إذ لم يكن غازي واحداً بل مجموعة غزاة.
فهو الوزير والدبلوماسي والشاعر والروائي والمفكر صاحب الرسالة.. فحياته كانت رحلة زاخرة بالكثير من المحطات والإنجازات والأدوار التي يبتهج المرء لو برع في واحد منها.. فكيف بمن تميز فيها جميعاً؟ في حي من أحياء الهفوف في عام 1940 ولد غازي القصيبي لأسرة اشتهرت بالتجارة.. وبالرغم من أنه نشأ يتيم الأم.. فوالدته توفيت بعد 9 شهور من ولادته لم يمنعه ذلك من أن ينهل من بحور العلم والمعرفة فينشغل بها عن هموم وحدته وآلام يتمه. وبعد تخرجه من الثانوية شد رحاله إلى مصر ودرس البكالوريوس في كلية الحقوق في جامعة القاهرة، التي كانت وقتها هارفارد جامعات الشرق الأوسط.. فتوسعت فيها مداركه وتفتحت بواكير وعيه.. وعاش في المسرح الأكبر للأحداث السياسية والحركات الثقافية في الوطن العربي، ثم أكمل دراسة الماجستير في العلاقات الدولية في إحدى أفضل الجامعات في أمريكا «جامعة جنوب كاليفورنيا» ومن ثم حصل على درجة الدكتوراة من بريطانيا.. هذه الخلطة العلمية المدهشة من الجامعات والتجارب المصاحبة لكل شهادة صنعت وصقلت فكر قائد وطني بروح عالمية.
حياته المهنية لم تكن أقل إثارة من محطات تعليمه الأكاديمي.. فقد عمل كأستاذ جامعي، وتولى القصيبي 4 وزارات وحقيبتين دبلوماسيتين في البحرين ولندن.. واشتهر بلقب الوزير الملثم الذي سرق أضواء الصحافة، وهيمن على أحاديث المجالس، بما أشيع عن جولاته التفقدية السرية في مستشفيات المملكة حين كان وزيراً للصحة. أو لفتاته الإدارية الرمزية في التجول في مكاتب وزارته، بعد بداية الدوام الرسمي، حاملاً معه نحو 300 بطاقة شخصية ممهورة باسمه، وفيها عبارة «حضرت بعد بداية الدوام بأكثر من ساعة، ولم أجدك.. أرجو ألا يتكرر هذا التصرف» والحرص على قراءة ملخصات كل ما يكتب عن وزارته وتكليف المعنيين بالرد عليها، وأحيانا يقوم بذلك بنفسه وبخط يده ليكسب بدبلوماسيته ود كل صحافي غاضب أومحتج.
من لا يدرك إمكانية أن يلعب الإنسان أدواراً استثنائية مختلفة في حياته، قد يغير رأيه حين يقلّب فصول حياة القصيبي. فلم تمنعه مسؤولياته الوزارية الجسيمة ومهامه الإدارية الثقيلة، من أن يدون أجمل الروايات مثل شقة الحرية والعصفورية والزهايمر.. وأجزل القصائد التي نافح فيها عن قضايا كثيرة إنسانية وأدبية ووطنية..
في المقال القادم نتناول أبرز الدروس من مسيرته بمناسبة الذكرى الثامنة على رحيله.