د. جاسر الحربش
أظنه من المتفق عليه أن الطبيب السعودي حقق في وطنه تفوقاً واضحاً في كل مجالات التخصص، مقارنة بالمهن الأخرى وبزملائه الأجانب. لم يتحقق له ذلك التفوق إلا بعد معاناة طويلة مع الروتين الوزاري والتغلب على الأحكام المسبقة.
سوف آخذكم إلى بداية ممارستي الطبية في الوطن بعد عودتي من البعثة عام 1971م. المجموعة الصغيرة من الأطباء السعوديين في مستشفى الملك عبد العزيز بالرياض (طلال سابقاً) واجهوا تردداً من قبل المرضى في اختيار الفحص عند الطبيب السعودي، مفضلين الزملاء الآخرين من مصر وباكستان والهند. بالنسبة للمرضى الإناث بدا ذلك مفهوماً لنا، فهو الحياء من اطلاع السعودي على الوجه وما يجب الفحص عليه من البدن، ولكن لماذا العزوف من المرضى الذكور؟. كان واضحاً آنذاك عدم التصديق أن السعودي يستطيع إتقان المهنة الطبية مثل الأجانب. استمر الوضع هكذا بضع سنين، ربما عشراً أو قريباً من ذلك، ثم بدأ التغير الجارف يتجه لصالح الطبيب السعودي. . لماذا؟
ليس في الموضوع ما يثير الاستغراب للأسباب التالية:
أولاً لأن مهنة الطب دراسة وممارسة لا مجال فيها لتدخل المتطفلين من الخارج، لا من جهات حكومية ولا رقابة احتسابية. المنهج الدراسي وتطبيقات الممارسة في العيادات والمستشفيات مرسومة ومحددة بعلوم الطب النظرية والعملية. حصل مراراً محاولات تدخل من قبل محتسبين لعزل المرضى الإناث عن المعاينة والعلاج من أطباء ذكور، ولكن ذلك تم وأده في مهده.
السبب الثاني هو أن التأسيس لدراسة الطب تم باختيار أفضل الطلبة في المراحل الثانوية فأعطيت لهم الأولوية للابتعاث الطبي، ولاحقاً لدراسة الطب في الجامعات السعودية.
السبب الثالث والأهم هو الاستقلالية شبه التامة للمهنة الطبية عن الروتين المعطل عند التزامها باللوائح والقوانين المحددة عالمياً للمسار الطبي. ربما نستطيع إضافة عامل ارتياح المرضى المسنين لطبيب يفهمون ما يقول، ولكن هذه ناحية اجتماعية لا علاقة لها بالطب كعلم ومهارات.
بالمختصر المفيد، المهنة الطبية التي تتمتع بأكبر قدر من التسيير والرقابة الذاتية هي مهنة الطب، ومن غير المتوقع تدخل هيئة حكومية أو احتسابية لتحاول أن تحدد للطبيب طريقة تعامله مع الحالة المرضية، طالما كانت المؤسسة التي يعمل فيها تطبق اللوائح والأنظمة المحددة للمهن الطبية.
هكذا نستطيع الاستنتاج أن الأداء المتميز، ليس للطب فقط وإنما لكل المهن يحتاج إلى بيئة عمل ورقابة من داخله تتابع وتحاسب وتعين وتفصل ولا دخل لخارجها بالموضوع، إلا في حدود مراقبة الجودة النوعية والتحقيق فيما يقدم من شكاوى. إنها الحرية التي يتمتع بها الطبيب بحكم حصانة المهنة من التدخل المتطفل، ولكن هذه الحرية هي مفتاح التميز والتطوير والنجاح في كل مهنة وعمل ونشاط.