د. محمد بن إبراهيم الملحم
قدمت بصورة ساخرة في مقالتي السابقة إشكالية علاج التعليم من منظور احتمالي دونما تشخيص وتحديد مواطن الداء والاكتفاء بالعلاجات «الاحتمالية» وقد شدني إلى كتابة ذلك خبر جميل عن انتهاء هيئة تقويم التعليم من الإطار الوطني الشامل لمعايير مناهج التعليم العام، حيث قسمت الدراسة إلى 4 مستويات هي: التأسيس والتعزيز والتوسع والتركيز، كما طورت أنظمة الاختبارات وتقويم الطلاب وإعداد المعلمين والمناهج بما يستجيب للطموحات التنموية في المملكة، وهو بالنسبة لي أمر مفرح بل مفرح جدا أن تكون هناك مبادرات إلى تغيير من هذا النوع يكون شاملا لأغلب جوانب العملية التعليمية بل وينتظم كل النظام التعليمي من خلال تقسيم المستويات الجديد على الرغم مما سوف يستدعيه هذا القرار من الكثير من التغييرات في المباني والتجهيزات وربما الموارد البشرية، بيد أني انظر إلى أي عملية تغيير تطويري بنظرة خاصة جدا مع بقاء شعور التفاؤل والفرح به كتغيير وهو تساؤلي هل هذا التغيير هو تغيير مربك للواقع Disruptive Change أم هو خطوة ضمن ألف خطوة سنمشيها، بالنسبة للألف خطوة فهي محل ترحيب لكن ليس دون الخطوة الأولى القادحة للتغيير الحقيقي، وهذا النوع من التغيير مربك لما هو موجود حاليا أي أنه يغيره تماما فتأتي قيم جديدة وتبعث ممارسات جديدة، وهو مصطلح مقتبس من مجال إدارة التسويق فهو تغيير مربك للسوق ومن أمثلته مثلا الجوال وتأثيره على سوق الهواتف العادية، ومثال الكتب الإلكترونية وتأثيرها على سوق الكتب التقليدية وحتى خارج نطاق التكنولوجيا خذ مثلا فكرة المولات التجارية وتأثيرها على الأسواق التقليدية وكذلك عمليات الليزك وتأثيرها على سوق العدسات اللاصقة وهكذا، وفي التعليم كانت هناك تغييرات مربكة أحدثت تأثيرات مهمة في دور التعليم مثل التعلم المتمحور حول الطالب وتطبيقاته المختلفة كالتعلم التشاركي والتعلم التعاوني وتعلم المجموعات والتعلم النشط وتفريد التعلم والتعلم المبرمج ، هذا في المجال نفسه كعلم وممارسة ولكن لو أردنا أن ننظر إلى الخدمات التعليمية أي ما تتبعه وزارة التعليم في تقديمها للخدمة التعليمية وكيف يمكن أن يكون تغييرها مربكا وقادحا للتغيير فيمكن أن ننظر إلى ما قامت به دول حققت مستويات تعليمية متقدمة لنقارن ماذا كان وضعها قبل وبعد التغيير وكيف أسهم ذلك في منفعة البلاد كلها، ففي فنلندا اهتمت بالمعلم كأساس للتغيير وجعلت مستواه العلمي واأكاديمي وإتقانه لمهنة التدريس إتقانا مبهرا هو المحك فكان دخول المعلمين المتميزين إلى هذه المهنة كافيا لإحداث ثورة تغييرية في التعليم، وفي سنغافورة كانت حزمة متزامنة من إجراءات تشجيع الالتحاق بالتعليم في الخمسينات يتلوها تشجيع إكمال التعليم في المجال الفني والهندسي في السبعينات وذلك من خلال تعدد ومرونة المسارات، وهذا كله أدى إلى نهوض اقتصاد البلاد من خلال هذا «الجيش» من الفنيين والمهندسين الذين شغلوا مصانع الشركات الغربية المستقطبة للبلاد.
خطوة التغيير المربك هي تلك التي تبنى على تشخيص عميق وفهم متقن للواقع وإبداع في اقتراح الحل، وبالنسبة للتعليم فإن مثل ذلك الحل لا يأتي في يوم وليلة أو هو نتاج تفاكر في اجتماع أو لقاء لمجموعة محدودة من الناس تملك «الصلاحيات» ولديها فضيلة «المنصب» بل هو نتاج عمل شامل والمهم أنه يتماهى مع خطط وطنية مهمة ففي حالة سنغافورة لم يأت تشجيع التعليم الفني من فراغ بل كانت هناك خطط تستهدف استقطاب الشركات الأجنبية، ولذلك إذا رأيت بوصلة التغيير في نظام تعليمي غير مستقرة مع أنها تتحرك يمينا وشمالا باستمرار (أي هنا تغيير قوي) فاعلم أنه غير مرتبط بخطط اقتصاد وطنية واضحة المعالم.