د. عبدالحق عزوزي
عندما حظي الموقف البطولي لمهاجر غير شرعي من مالي أنقذ مؤخراً طفلاً من السقوط من أعلى شرفة في الطابق الرابع لبناية في باريس، بتكريم رسمي وشعبي في فرنسا، وعندما قرر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تسوية أوراقه تمهيداً لمنحه الجنسية الفرنسية خلال استقباله في قصر الإليزيه وقرر ضمه إلى صفوف فرق الإطفاء الفرنسي، ظن البعض أنه ستكون هناك تغييرات إيجابية في نظرة الغرب للمهاجرين، ولكن الواقع يفند كل هذا، وتنتظر المهاجرون وبالأخص غير الشرعيين منهم والذي قدموا في السنين الأخيرة أوقاتاً عجافاً مع دول استقبالهم وبالضبط مع الأحزاب السياسية التي تجعل من المهاجرين والمسلمين خزاناً لجمع الأصوات في الانتخابات..
فمشكلة الهجرة من المشكلات الأوروبية المستعصية إذ تتداخل فيها عوامل السيادة والاقتصاد والاندماج واللجوء السياسي والانتخابات وبروز الأحزاب اليمينية وكراهة الأجانب، واللائحة طويلة. وكل من أوتي الحكمة ينادي «بأنسنة» المشكلة عن طريق بعض الحلول التي تفيد الجميع، كضرورة عدم جعل المهاجرين رهائن لسياسة أمنية وسياسة لمحاربة الإسلاموية تم تبنيها في حوض المتوسط، وكضرورة عدم الخلط بين الهجرة والإرهاب والمخدرات والجريمة، وذلك بفضل دمقرطة التنقل عبر الحدود لأكبر عدد ممكن؛ وهذا مطلب يلح عليه شباب الضفة الجنوبية الذين يسعون إلى تحقيق حرية التنقل؛ كما تستدعي هذه السياسة إصلاح سياسة التأشيرات لأن التشديد فيها يخلق مظاهر الاحتيال عليها والمتاجرة بالوثائق المزورة.
وترصد أموال طائلة لمحاربة الدخول السري لدول البحر الأبيض المتوسط، في حين أن هذا المشكل لا يطال سوى 10 في المائة من الهجرة غير الشرعية التي في أغلبها تنجم عن تمديد دخول شرعي إلى إقامة غير شرعية.
وتتقاسم دول الضفة الجنوبية هذه المقاربة الأمنية التي طورت بدورها سياسات مضادة للهجرة وشددت المراقبة، مما أدى بالمهاجرين إلى سلك معابر شاقة وأكثر خطورة (قناة سيسيليا بدل لبريندسي وجزر الكناري عوض مضيق جبل طارق).
وتشير كل الأبحاث أنه كلما كانت الحدود مفتوحة سهل مرور المهاجرين (كما هو الحال بأوروبا الوسطى والشرقية منذ سنة 1991)، وكلما أصبحت التخوم مغلقة كثر التهريب وأضحى المهاجرون يستقرون بصفة عشوائية حينما تنقصهم الوثائق اللازمة نتيجة عدم القدرة على المغادرة أو العودة فيما بعد.
وتشكل الهجرة حلاً لبطالة شباب الجنوب ونقص اليد العاملة في دول الشمال ودول العبور، في سياق تجزئة سوق الشغل؛ وهكذا فإن الحق في التنقل يمثل شرطاً لتحويل المهاجرين إلى فاعلين في الفضاء المتوسطي، إذ يحظى به أولئك الذين اكتسبوا الجنسية بدول الاستقبال، أو الذين لهم رخص إقامة تسمح لهم بالتنقل بسهولة، بمعنى المهاجرين الأكثر تأهيلاً وكذلك الذين أقاموا لمدة طويلة بدول الاستقبال، وإلا أصبحت الحدود مصدر كسب للمهربين.
ولكن المنحى الذي بدأنا نراه في الدول الغربية هو تشديد سياسات الهجرة وتمكين أحزاب متشددة من الوصول إلى مناصب حساسة، ولعل أفضل مثال حديث يمكن أن نعطيه هو إيطاليا بعد نحو ثلاثة أشهر من المفاوضات غير المسبوقة في تاريخ إيطاليا، إذ توصلت حركة خمس نجوم (المناهضة للمؤسسات) والرابطة (يمين متطرف) إلى تسوية مع الرئيس سيرجيو ماتاريلا الذي طالب بضمانات حول بقاء إيطاليا في منطقة اليورو. وكان الرئيس قد لجأ إلى تعطيل قائمة أولى للحكومة قبل أن يوقع على قائمة معدلة بوزراء أدوا اليمين، على أن تعقد جلسة نيل الثقة في البرلمان.
جوزيبي كونتي، رجل القانون الذي يدرس في جامعة فلورنسا وهو حديث العهد بالسياسة، أدى اليمين أمام الرئيس الإيطالي ليصبح رئيس الوزراء الجديد للبلاد في أول حكومة مناهضة للمؤسسات في غرب أوروبا، اختار كل من لويجي دي مايو، زعيم حركة خمس نجوم، وماتيو سالفيني، زعيم الرابطة، نائبين لرئيس الحكومة بعد أن كانا في مقدمة الحملة ولعبا دوراً أساسياً في المفاوضات الطويلة، على أن يتولى الأول وزارة التنمية الاقتصادية والعمل والثاني وزارة الداخلية. وتعيين هذا الأخير على رأس وزارة الداخلية سيعني أن الدولة ستدخل تاريخاً جديداً في استقبال وترحيل المهاجرين، كما أن السياسات الأوروبية في هذا المجال ستعرف تغييرات لا سابق لها، وهو ما يمكن أن تتبعه سياسات مماثلة في العديد من الدول الأوروبية؛ وهذا سيعقد أكثر من القوانين الجارية بها العمل خاصة تلك المتعلقة بالانفتاح وقبول الآخر.