هي القصة التي كانت حاضرة في طفولة أفونسو كروش، الكاتب البرتغالي الذي صدرت له أعمال عدة عن دار ميسكلياني للنشر. إنها حكاية الجدّة التي احتفظت برسام في منزلها خشية عليه من العيون التي تترصده، حيث يشير أفونسو إلى أننا جميعاً حين ننظر في حياة أجدادنا نجد قصصاً تفتح الباب على قصص. إنها قصة الرسام جوزيف سورس، الرسام المفتون بالدائرة؛ ذلك أن الدائرة هي أول شيء يرسمه المرء. إنها أكثر الأشكال طبيعية، وهي قادرة على احتواء كل شيء، بل هي رحم الأشكال كافة.
تبدأ الحكاية بولادة جوزيف في بيت لعقيد متقاعد من الجيش، بين أبٍ يعمل ككبير للخدم، وأم تساعده في الكيّ. وعلى الفور ازدادت حظوظه في أن يتبناه العقيد بجانب ولده ويلهلم جامعاً بينهما على طاولة معلم واحد. وُلد سورس طفلاً جميلاً، قوياً كمياه البحر، معافىً كمياه المطر، وبعين يسرى شبيهة بقمرٍ متناقص، تشير إلى أنه سيصير فناناً. وإنه لأمر محزن؛ إنها التعاسة أن تُولد كفنان؛ لأنك حين تنظر إلى العالم سوف تنظر إليه وكأنك تراه للمرة الأولى في كل مرة، فهل قُذف سورس عالياً في الفراغ ولم يلتقطه أحد؟
تخطى سورس سنواته وهو يحمل بين يديه دفترين، واحداً للأعين المفتوحة، والآخر للمغمضة. أحب فرانتيشكا ابنة الجيران مثل من يسقط في حافة، ويستمر في سقوطه غير مدركٍ أن النهاية لا بد أن تكون ملطخةً بالدماء. أحبها بجنون وصدق؛ لأنها كانت ذلك التفرع الذي يمكن أن يؤدي إلى ضياعه، وفعلاً أدت إلى ذلك؛ إذ تعرض والده إلى نكبة، أودت بحياته؛ ليستفيق بعدها من سباته الداخلي مسحوباً إلى الحرب التي دقت طبولها بلا استئذان. غاب في الحرب وهو لا يعلم إن كان سيعود أم لا، إن كان سيقتل أم يُقتل معذباً تحت فكرة من ينتصر فعلاً في الحرب؟ لا بد أنهم أولئك الذين لا يقترب الرصاص منهم أو حتى لا يخرج من فوهات بنادقهم. عاد بعد الحرب إلى البيت وسرعان ما استقبلته فرانتيشكا بخبر أودى بقلبه مثقوباً؛ لقد تمت خطبتها على ويلهلم ابن العقيد، ذلك الطفل الذي حصر في الحكاية مجرد ظلٍ لا يربط بنيه وبين الفن أي شيء. وحيث إن سورس كان يحتفظ بالمسافة بينهما كما هي الحال بين ابن الثري وابن البواب لم يفعل شيئاً سوى أنه هجر البيت بأذن ويلهلم اليسرى كأنه بذلك وافق على العقد بالدم، وحين ينبثق الدم من أجل العقود لا عودة في ذلك. هاجر بعدها سورس إلى براغ، بين أمه ووالده الذي رفضت الأم أن تعتبره ميتاً، مما أودى بها إلى الجنون؛ لذلك تركها سورس في مصحة، وقرر أن يعيش من أجل نفسه. وبعد مضي القليل من الوقت التقى صديقاً له في الحرب، وهاجر برفقته إلى أمريكا، وهناك تحت وطأة الأيام السريعة تاهت به الدروب حتى انتهت به إلى الحنين لأمه. عاد بعدها إلى براغ رساماً يختبئ تحت المجلى.
الرواية من ذلك النوع الذي يهيم بك في رحلة تتخللها فلسفة الفن والأشكال الهندسية، حكاية جدّة لكنها تقاطعات حيوات أخرى.. عمل فني يستلزم المثابرة في القراءة حتى تستطيع أن تُمسك بخيوطه، فمن نحن حقاً؟ هل نحن هذا الجسد الذي يراه الناس أم ذلك الجوهري الذي لا يُرى؟!
** **
- أحمد صالح