عندما كنت صغيراً لا أحبذ الليل لظلمته وسكونه الذي يوحي لي بالفناء ونوم قد يفضي إلى الموت، هذا صيفاً فكيف به شتاءً؟! هكذا كان اعتقادي والصغار أيضاً في ذاك الوقت يهابون الليل ويتخيلونه دائماً في مضاجعهم كالغول الذي يريد أن ينقض عليه نائماً في زمن ليس لك خيار أن تستيقظ حتى آخره لعدم وجود حاجة تجعل عقارب الساعة تتحرك كثيراً نحو الشمال والشرق بسرعة كما تريد! لذلك ما أجمل بيت البردوني :
طلعنا نُدلي الضحى ذات يوم
ونهتف: يا شمس لا تغربي
والعرب فُتنوا بالليل ولياليه فكان غزلهم وحبهم ولقاءاتهم ليلاً غراماً هادئاً وبعيداً عن أعين العذّال، وظلت لياليهم هكذا حتى في وقتنا فلم تغيّر الكهرباء عشقهم لليل وتحول قلوبهم عنه إلى صباح أو ضحى، ولم تعرف الأمم الأخرى ذلك وتمعن فيه كما عرفته العرب وأوغلت فيه حتى روبرت ستيفنسون عندما أراد أن يكتب عن العرب كانت (الليالي العربية الجديدة) عنوان لمجموعته القصصية القصيرة.
ومع ذلك هم على اختلاف فيه ومتنازع عليه!
وحين ولّت تلك الأيام واندرست وبقي فيها رائحة الماضي الجميل وعبق الذكريات التي تتمنى بعضاً منها يعود ولو سويعات حين تلقي الدُجنة بظلالها على الكون فتأتيك نفحات زينتها تلك السماء المرصّعة بالنجوم لكي تعانق مساءً تلعب فيه نسمات ترجعك إلى بساطة العيش وقناعة النفس، أقول البعض منها حيث مساحة الزمن تتسع للصواب والخطأ والتراجع والتقدم وإن ظللنا نتغنى بتلك الليالي القصار ونقبّلها كلما عنّ لنا منها طيف فنتهيض ثم نزفر زفرة الذكرى والوله وما هي بذلك! ولكنها أيام تصرمت يعجبك منها ما أحببت حتى إذا انقضى طيفها رجعت إلى عهدك الجديد وقد طرح قلبك منها ما ساء منك فلا تراه إلى برهة تحمد الله على نسيانه! تلك الليالي التي لم يصب هواها النقي مخرجات الحضارة الجديدة بغثها وغثاثتها حتى أصبحت الرئة سوداء جزية التمدن وإن كان التدخين في هذه بريء من ذلك! وأضحوا يحبون بيت جرير لأنه يحيي ليلهم ويطول وإن ساءه ذلك:
أطال هذا الليلُ لا يجري كواكبه
أم ضل حتى حسبتُ النجمَ حيرانا
فحيرة النجم عنوان لليل طويل لا ينقضي سريعاً، ولكنها جاءت فائدة لفتيان هذا العصر! على أن بشار بن برد يرى الليل للعاشق هوى ينتظره بفارغ الصبر:
طَردَ الصباحُ لعاشقٍ غَزلٍ
يهوى جُنوح الليل إن جنحا
ثم يعود مرة أخرى ليجده ثقيلاً كثقل ليل امرئ القيس فيتساءل ضَجِراً منزعجاً:
خليليّ ما بالُ الدُّجى لا تزحزحُ
وما بالُ ضوء الصبح لا يتوضحُ
أضلّ الصباح المستنير سبيله
أم الدهر ليلٌ! كله، ليس يبرحُ
فالليل وآخره خليط أمزجة، متنوعة المشارب، مختلفة الأذواق وصريعة الحوادث، وبينما هم كذلك فإن كسرى لا ينتمي لهذا ولا ذاك ولو علم أن الناس في وقتنا لا ينامون ليلاً حين اتهم الأعشى باللصوصية عندما فُسّر له قوله:
أرقتُ وما هذا السُهادُ المؤرقُ
وما بي سقم وما بي معشقُ
بأنه طال سهره دون مرض أو عشق لباتوا كلهم في حكمه لصوصاً، فياله من فرق بين ليل البارحة الذي يسهر فيه العاشق أو المهموم أو المريض فقط وليل اليوم يسهر فيه كل الخلق عبثاً ولهواً دون سبب حتى آخره!
ولكن تبقى حقيقة الليل وأجمل من ذلك كله قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا}.
** **
- زياد السبيت