د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
كتبتُ قبل أسبوعين عن الانفجار البرامجي التي يحدث في قنواتنا العربية في شهر رمضان المبارك، وعن الكم الهائل والتكدُّس اللامنطقي من المسلسلات الدرامية والكوميدية التي تُعرض في مسائه، ثم كتبتُ بعده مقالاً عن أهمية تمكين الشباب من العمل الثقافي، وكيف أنَّ الساحة الثقافية اليوم أضحت محتكرةً من قِبل أسماء معينة مللنا من تكرارها، ولعل هذين المقالين أنتجا موضوع هذا المقال.
في رمضان من هذا العام، تهيأ لي -دون تخطيط- أن أشاهد الحلقات الأولى من بعض المسلسلات الخليجية والعربية، حرَّمتُ بعدها أن أكمل شيئاً منها، حفاظاً على وقتي وعلى ذائقتي، وصوناً لعيني وأذني وعقلي، واحتراماً للفن الجميل الذي يُمتهن باسم هذه المسلسلات، وحرصاً على عدم فقداني لأعصابٍ طالما تلفت من الصبر على أمثال هذه المسلسلات التي أقل ما يقال عنها بأنها (بايخة) و(مقرفة)، لا هدف من ورائها سوى التهريج السخيف، والإسقاطات الساذجة، والمحاولات اليائسة للإضحاك بأي طريقة، والتصنع المقيت، والمبالغة اللامنطقية، وتعبئة وقت القناة أيا كان المحتوى!
ودون تأمل ولا تفكير، يمكن للمرء أن يدرك سبب هذا الانحدار الرهيب الذي تعاني منه الدراما العربية، والخليجية بوجه خاص، إذ لم يتغير الأمر منذ أكثر من عشرين عاما، لا في طريقة الأداء، ولا في السيناريو، ولا في الإخراج، ولا في الأفكار، ولا في طريقة ترتيب الأحداث، ولا في تركيب العقدة، ولا في تأليف الحل، ونظرةٌ واحدةٌ تنبئك عن سرِّ هذا التكرار الممل، فالممثلون هم الممثلون، والمخرجون هم المخرجون، والمؤلفون هم المؤلفون، إلى الدرجة التي لا يمكن معها التفريق بين مسلسل جديد وقديم، إلا من خلال سنة الإنتاج، وظهور التجاعيد على وجوه الممثلين، وبروز بعض المظاهر العصرية.
إنَّ المتابع لإنتاجنا الدرامي يعتقد أنَّ هذا هو أقصى ما يمكن إليه من مستوى، ويظن أنَّ ما يُعرض على شاشاتنا الآن هو أجود ما يمكن أن يُعرض، أفكاراً وأداءً وإخراجا، وطبعي أن يتكون من خلال هذا صورةٌ نمطيةٌ عن هذا الإنتاج بأنه فاشل بجميع المقاييس، لرداءته فنياً، ولعدم قدرته على التطور، ولعدم التفاته إلى النقد الهادف البناء الرامي إلى تصحيح المسار، ولتشبثه بأسماء وأفكار قديمة أفلست، ولم يعد لديها شيءٌ تُقدِّمه!
ولعل من أهم أسباب هذا الإخفاق هو الاحتكار الذي يمارسه المسؤولون عن هذه الإنتاجات، ويساعده احتكارٌ آخر من قبل المسؤولين عن الإعلام، الذين لا يتعبون أنفسهم في البحث عن أسماء جديدة، شابة وطموحة، قادرة على تقديم الجديد والفريد، ولا أرى سبباً لذلك إلا العجز والتكاسل، وتجاهل الاهتمام بأذواق المشاهدين، وعدم القدرة على مواكبة الجديد والمتطور في مجال الفكر والثقافة، فتمسي القضية باختصار: (شايب) يمثِّل وينتج، و(شايب) يشتري ويعرض!
إنَّ من يشاهد إنتاجنا الدرامي يأسف للحال الذي وصل إليه، ويتساءل في عجب ودهشة كيف أنَّ هذه السخافات الرديئة فكرياً وفنياً لا تزال تُعرض على شاشاتنا، ويدهش من رضى المسؤولين عن هذه الحال المزرية التي وصل إليها هذا الإنتاج، والأعجب من هذا وذاك: أين الشباب الموهوب المبدع عن هذا المجال المهم؟ وكيف تجاهله المسؤولون وتعاموا عنه؟ وكأنَّ البلاد عقمت عن الإنجاب، فلم يجدوا شباباً لديهم القدرة على استثمار ما وصلت إليه التقنية في إنتاج أفلام ومسلسلات عصرية، تلامس الواقع، وتعالج قضايانا الحالية بجودةٍ ودقةٍ وإبداع!
لقد تهيأ لي أن أشاهد برنامجاً في هذا الشهر المبارك، يُعنى بعرض الأفلام القصيرة التي ينتجها الشباب، وهو البرنامج الوحيد الذي يستحق أن يُشاهد في هذا الشهر من وجهة نظري، إذ لا يتجاوز وقته عشر دقائق، ولا تخترقه الدعايات البائسة، ولا تفسده الفواصل المشتتة، أقول: تهيأ لي أن أشاهده، فذُهلتُ مما رأيتُ فيه من إبداع، حيث كانت معظم الأفلام في غاية الروعة والإتقان، الفكرة مبتكرة بديعة، والحوار متقن متميز، والأحداث منطقية مشوقة، والأداء احترافي بحق رغم عدم شهرة الممثلين، بل ربما كان الفلم الأول لهم، أما الإخراج والصوتيات والتصميم الجرافيكي فأقل ما يقال عنها إنها استثنائية، بل إني أرشح بعضها للمنافسة عالميا إن لم يكن قد ترشَّحت فعلا.
لقد شاهدتُ مجموعةً من هذه الأفلام القصيرة الرائعة، فلم أعرف ممثلاً ولا مخرجاً ولا مؤلفا، كلهم كانوا مغمورين لا وجود لهم في الساحة الدرامية، والسؤال هنا: أين هؤلاء من إعلامنا؟ بل أين أعلامنا من هذه المواهب؟ أين مؤسساتنا الإعلامية من الاستفادة من هؤلاء الشباب المبدعين الذي أثبتت مثل هذه البرامج وجودهم وكفاءتهم وقدرتهم على تقديم الجديد الرائع، ومنافسة أقدم المنتجين والمؤلفين والممثلين الذين (غثونا) بأفكارهم وقصصهم وأدائهم الباهت؟
إنني أرا هن على هذا الجيل الشاب الموهوب الذي أذهلني وأذهل كثيرين بجودة الإنتاج الدرامي، وبروعة الأداء وجمال الفكرة وقوة التأثير، وأناشد المؤسسات الإعلامية والقنوات الفضائية بأن تتيح المجال لهذه الفئة التي أجزم أنها ستسهم في نقلةٍ نوعيةٍ في إنتاجنا الدرامي، وتنقذنا من الصورة النمطية الرديئة التي عاشها هذا الإنتاج طوال الأعوام الماضية.