د. حمزة السالم
في المقال السابق ذكرنا وضع قواعد ثلاثة عشرة، للعلة، استنبطتها من علة منصوصة بالوحي، فاستمدت منه شرعيتها، فخرجت منهاجاً للمتعلم واختباراً للدارس، فتبارك الله أحسن الخالقين. فما عاد يصعب إدراك العلة التي إن كانت في الشيء الحقته بالميسر، فصار قماراً، وأخرى إن لحقت بالمال صار مالاً زكوياً. فلا تحريم إلا بوحي، أو بقياس بعلة مطردة صحيحة. فبهذه القواعد يسهل للفتى استنباط العلل، والحكم على صحتها بهداية الوحي لا منطق الفلاسفة، ولا أهواء الفقهاء، وقد أعيت قبل، شيوخ الأصوليين.
واليوم نكمل الثمانية قواعد المتعلقة بالعلة دون تعلق سبب أو شرط.
فالخامسة: عدم رجوع العلة على أصلها فتنقضه: وقد قال بها قبل الأصوليون صراحة أو ضمناً لأنها معلومة بالضرورة. والمعنى: أي لا يوجد أصل دل عليه النص فتُستنبط علة منه للحكم، ثم تأتي هذه العلة المستنبطة فتنقض الحكم عن الأصل. كالقول بمطلق الثمنية علة للزكاة، فإنها تُخرج الذهب والفضة من المال الزكوي، لأنهما لم يعودا أثماناً فهذه علة رجعت على أصلها فنقضته فهي علة باطلة.
أما السادسة: أن العلة في ذاتها لا تكون مشروطة بشرط ولا ممتنعة بمانع. فهذه كالتي قبلها، اللهم إنه رجوع على بعض الأصل لا كله. مثل من يأتي فيشترط للخمر أن يُزبد حتى يكون حراماً، أي حتى يكون سُكراً!!! فهذا شرط في أصل العلة يبطل العلة، فكم من مُسكر ليس له زبد. فهنا أبطل شرط ظني علة نصية، فهذا أعظم الأبطال. وهو دليل على فساد هذا الشرط، لأن علة الاسكار نصية. فكل ما يفسدها فهو الفاسد لا العلة.
أما أن يقال إن الزبد هو شرط وجود الكحول، لا شرط الإسكار، فهذا شرط للسبب وهذا ممكن، فالأسباب تتنوع، كما تتنوع شروطها. ولكن العلة واحدة وليس لها شروط ولا موانع في ذاتها.
والمنطق الذي يُلزم ألا يكون هناك شروط أو موانع لأصل العلة الشرعية نفسها، نابع من استحالة وجود حالة خلق وإيجاد وفيها مانع من ذاتها وداخلها، فهذا تناقض يجمع بين الوجود وعدمه. كما أنه واقعيًا تطبيقيًا يستلزم إدراكًا لتفاصيل حدوث العلة، وهذه تفاصيل دقيقة غير ممكنة لا في علة كونية ولا شرعية لأن العلة في الأصل من أفعال الربوبية، سواء في الخلق أو في التشريع.
والسابعة: أنه لا يضر صحة العلة تحديد حجمها أو مقدارها.
أي أنه لا يمنع ما سبق وجود ما يحدد حجم أو مقدار العلة الموجبة للحكم. فالقياس لحجم العلة أو مقدارها، هو تحديد لحدها الشرعي المنضبط، لا شرط عليها. جاء بهذا النص والعقل والمشاهد الواقع. فالإسكار في مجلس واحد هو حد حجم الإسكار المقصود في علة السكر في الخمر. فأينما تواجدت نسبة من الكحول في كمية يستطيع الإنسان تناولها في مجلس واحد، كان قليل ذلك وكثيره محرمًا. سواء أكان ذلك الشيء مشروبًا أو مأكولاً أو مدخوناً أو محقوناً، طالما تحققت علة السكر فيه. والواقع انه لا يكاد تخلو فاكهة أو خضرة من الكحول. بل إن الذُرة فيها كحول لا بأس بها حتى اُستخدمت للطاقة، لا يستطيع إنسان استهلاك كميات منها في مجلس واحد حتى يدركه السكر.
وأما الثامنة، كون العلة مطردة وغير متناقضة، في كل حال: سواء، أكان الحال افتراضيًا معقولاً أو كانت حالة واقعية. وسواء أكان ممكن الحدوث، أو قد حدث قديماً أو حديثاً أو ممكن الحدوث مستقبلاً أو ممكن الوقوع. فلا يصلح أن نستثني حالة أو ما دون ذلك من الأصل، ولا أن يُخرج فرع قديم أو لاحق أو مستحدث منها. فمتى خرج فرد واحد من القياس بطلت صحة العلة.
كعلة الثمنية في زكاة الذهب والفضة: فهي تُخرج عروض التجارة وغالب الأموال، التي ليست بأثمان، من وجوب الزكاة. وكمن يجعل علة النماء علة للزكاة مطلقاً. فالإبل والغنم والبقر الرباعية المُخصاة فيها زكاة بعموم النص فيها، وهي لا تنمو. فهذه علة لم تنضبط في أصل الحكم فهي علة باطلة.
وأما الخمسة القواعد المتبقية للعلة من الثلاثة عشرة، التي تصلح لتُعين على التفريق بين العلة والسبب والشرط والمانع. فنؤجلها لمقال الخميس القادم، الذي نختم به هذه القواعد.