كثيرٌ من الناس على هذه الأرض لا يشعرون بأي قيمة أو معنى لحياتهم تراهم في ضياع سحيق، وحزن عتيق، ونظرة متدنية للذات وبؤس وضيق، يشعرون أنهم زائدون على هذه الحياة وأن الألم يحيط بهم من كل اتجاه، قلوبهم فارغة يعيشون صراعاً حول سبب وجودهم وفائدتهم فلا يوجد أي قيمة في حياتهم.
إن هؤلاء افتقدوا لمعنى الحياة، فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يفكر في سبب وجوده ومعنى حياته وهذا ما يخلق لديه دافعاً لإيجاد هدف للحياة ونظرة مستقبلية لتعبّر عن معنى جوهري وكامن يتمتع به كل فرد. وفي مراجعة لأقوال فيكتور فرانكل الذي أوجد العلاج بالمعنى فيقول: «يعتبر السعي الحثيث نحو المعنى هو ما يطيل أمد الحياة، بل إنه عامل أساسي من عوامل المحافظة عليها». ولا شك أن من فشلوا في إيجاد معنى لحياتهم وقعوا في شباك الفراغ الوجودي الذي يصاحبه الملل والضيق واليأس وتوفر أوقات كثيرة لا يعرف الفرد ماذا يفعل بها فيعوّض هذا الفراغ بإرادة معنى محبطة خاطئة وهذا ناتج من الإحباط الوجودي، ولا يقتصِر أولئك المحبطون على إحباطهم الذي يُشعرهم بعدم رضا داخلي ليقوموا بإحباط وتثبيط معنويات وطموحات الآخرين دون وعي منهم بحقيقة معاناتهم التي أوصلتهم لهذا الحد.
إذن كيف نصل لمعنى الحياة؟ في البداية ينبغي توضيح أن الإنسان لديه الحرية الكاملة في الاختيار بين القبول والرفض من القيم التي تساعده على تحقيق المعنى ولديه الحرية في اتخاذ اختيارات حياته، وطالما توفرت هذه الحرية وآمن بها فبذلك يستطيع أن ينتقل إلى مرحلة إرادة المعنى والتي بها يتحقق معنى الحياة وهذه المرحلة تعني بغية الوصول لمعنى محسوس ملموس للوجود المميز للإنسان وإن افتقاد القدرة على ذلك غالباً ما يكون بسبب وجود صراعات بين القيم المختلفة أو بسبب مشكلات روحية أبرزها كما تم ذكرها سابقاً هي الإحباط الوجودي. ولعلنا نذكر هنا أهم الأسباب المؤدية لهذا النوع من الإحباط وهي وجود الإنسان في بيئة أسرية لا تتبنى قيماً واضحة، بل مموهة لذلك لا يوجد دافع يدفعه إلى ما عليه أن يتخذه وبهذا لن يعرف ما يريد فعله ثم سيخضع لتحكمات الآخرين الذين يحددون له ما يريدون منه فعله وبالتالي لن يستطيع أن يقرر حقيقة نفسه.
إن هوية النجاح التي يكونها الفرد ويدرك بها نفسه كشخص قادر مسؤول ومحبوب وله أهمية وتأثير على بيئته ولديه قدرة على ضبط سلوكياته هي أساس لتبنيه قيم مثلى وهي التي تؤهله للشعور بأن لوجوده قيمة ومعنى، ولهذا حتى يتحقق المعنى في حياة الإنسان ينبغي أن يقر بدايةً بالتزامه بمسؤولياته ولذا أشرنا أن الفرد حراً في اتخاذ قرار حول فهمه لنفسه كشخص مسؤول يستطيع أن يقرّر أهدافه وقيمه ونهجه الحياتي باعتباره مسؤولاً أمام الله وأمام ضميره والمجتمع، هو حر أيضاً ليقرر ماذا يريد أن يكون عقلياً وروحياً، وهو حر في التعامل مع كل إمكانياته هل ينميها أو يتركها، وحر ليقرّر ما يود تركه من أثر وبصمة لوجوده. من المؤكّد أن معنى الحياة يختلف من شخص لآخر وعند الشخص الواحد من فترة إلى فترة بحسب التجارب والخبرات التي يمر بها لذا لا يوجد معنى مجرد للحياة، فلكل فرد رسالته الخاصة وهذه الرسالة تستوجب عليه مهام محددة هو مسؤول عنها وعليه أن يقوم بتحقيقها، وبهذا لا يوجد شخصان متطبقان إطلاقاً وهذا يعطي ميزة التفرد المحفزة لكل شخص ومهمته على الأرض. وعلى الرغم من زوال وجودنا فهذا لا يجعل وجودنا بلا معنى، بل يعيننا على تحديد التزاماتنا المسؤولين عنها والتي دائماً سنكون على استعداد لتحمّلها، وهذه هي الحرية المسؤولة كما يسميها فرانكل.
قد يثير بحث الإنسان عن المعنى وسعيه نحو تحقيق قيمه وسلام عقله وروحه نسبة من التوتر الداخلي وقد يكون التوتر بين ما أنجزه الفرد وما يجب عليه إنجازه، هذا التوتر لا غنى عنه للبشر وهو ما يحرك الإنسان ويدفعه. يقول بيهلر» التوظيف الصحي للكائن الحي يقوم على تعاقب خفض التوترات ورفعها».
وبعد التعرّف على ماهية معنى الحياة وأهميته وكيفية الوصول إليه وأهم ما يساعد في ذلك سنطرح في المقال القادم بقية العناصر التي تدور في مضمونها عن صور معنى الحياة وماهية الهدف النهائي للحياة الإنسانية وحقيقة عيش حياة ذات قيمة.
***
«الجزيرة»: نشرنا بطريق الخطأ الحلقة الثانية يوم الجمعة بتاريخ 23-9-1439هـ الموافق 8-6-2018م قبل الحلقة الأولى، لهذا لزم التنويه مع الاعتذار.