د. حسن بن فهد الهويمل
ربما أكون من أكثر المطالبين بإنشاء وزارة خاصة للثقافة، منذ أن كانت منوطة بـ[رعاية الشباب]. وحين ربطت بـ[وزارة الإعلام] كنت أثناءها لما أزل رئيساً لـ[نادي القصيم الأدبي]، ورئيساً لـ[المكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي]، وعضواً في عدد من المؤسسات الثقافية، وفاعلاً فيها، وفي أثناء إشرافها مُنِحْتُ وسام الملك عبدالعزيز، وشرفت بترشيحي شخصية العام الثقافية عام 1427هـ.
وكنا نتوقّع في ظل [الرؤية] المباركة - إن شاء الله - إحداث وزارة خاصة للثقافة. وقد حصل ما كنا نتطلع إليه. فلخادم الحرمين الشريفين، ولسمو ولي عهده الأمين وافر الثناء، وخالص الدعاء، وصادق المحبة، ودائم الولاء.
وليس غريباً أن يتم مثلُ ذلك. فالدولة تخلع ألبسة كثيرة، لتكون في مستوى إمكانياتها، ومكانتها، وتحدياتها.
في البدء أهنئ سمو الأمير [بدر بن عبدالله آل سعود] بالثقة الملكية. وأرجو أن يكون في مستوى المسؤولية. وأن يكون الرجل المناسب في المكان المناسب.
وهذا رهاننا الذي لن يخيب - إن شاء الله -. وأنا واثق، ومطمئن بأنه سيكون كما أريد له.
فالملك [سلمان] خبير بالثقافة، وبالمثقفين، يعرفهم بسيماهم حق المعرفة، وكيف لا تتأتى له المعرفة، وهو حامل [ملف المثقفين] منذ أن كان أميراً للرياض.
شفقتي، وإشفاقي أن [الثقافة] عصية الإحاطة، مُمَنَّعَةُ الانقياد، وأساطينها تجاوزوا بتعريفاتها مئة تعريف ولما يرسوا على مصطلح جامع مانع.
ومسؤول يتلقى رايتها، وهي بهذا الاتساع، وذلك التشعّب سيكون حتماً مثقلاً بالاحتمالات، وتعدّد التصورات.
مشروع الوزارة فُرِغَ منه، ودخل اللزز، وأطياف المثقفين يتنازعونها. كل طيف يود لو استخلصها لنفسه.
فمن الأقْوى الذي يَسْتَطيع أن يحتويها لِهَمِّه، وتطلعه.
- هل يحتويها الأدباء، أو المفكرون، أو [الأكاديميون]، أو الرسامون، أو الممثّلون، أو الفنانون، أو المسرحيون، أو السينمائيون؟
- أم تكون أوزاعاً بين هؤلاء، وأولئك؟
وحين تنقاد إلى [الأدباء] - على سبيل المثال -.
- فهل تكون مع التراثيين، أم مع الحداثيين. مع النقاد، أم مع المبدعين. مع الشعراء، أم مع السرديين؟
وحين ترتمي في أي حضن:
- فهل ستكون مع منهج اللغويين. أم مع الأبعاد الفنية، أو الدلالية. مع الملتزمين، أم مع المتحرّرين. مع العروبيين، أم مع المستغربين؟
- وماذا سيكون مفهوم تلك المصطلحات كلها؟
فيض من التساؤلات، وسائر الاحتمالات.
ودعك من المؤسسات الثقافية:
- الأندية الأدبية.
- الصالونات الأدبية .
- الدارات.
- المكتبات.
- المراكز.
- المعارض.
- المهرجانات.
وكل مؤسَّسَةِ، أو اتجاه بما لديهم فَرِحُون.
لا أقول في ظل هذه الدَّوامات إلا:- اللهم سدّد خطى الوزير، وشد عضده بالكفاءات البشرية، الواعية، المستوعبة، المستقيمة، المتوازنة، المنصفة. وألْهِمْه الصبر، والمصابرة على مواجهة التحديات، والاستفزازات، والتعنتات.
مشاهدنا الثقافية كافة متخمة بالتيارات: الفكرية، والفنية، واللغوية، وبالمذاهب. وكل فئة تحتكر الأفضلية، والأهلية، ولا تزايد على صدارتها، وأحقيتها بكل [الكعكة].
[الوزير] في النهاية يمثِّل الدولة. و[الدولةُ] تمثِّل الشعب. و[الشعب] أطياف، وأعمار، وأجناس. ورغبات، وهوايات، وأهواء، وشهوات، وهي ملزمة باحتواء ذلك كله.
و[الوزارة] إذ تدير دفة هذه المتناقضات، فإن واجبها أن تديرها بالحكمة، والحلم، والأناة، والتوازن. وأملنا بالوزير - إن شاء الله - أن يكون رحب الصدر، بعيد النظر، مستعداً لقبول التنوّع، وإدارة الاختلاف.
كاتب هذه السطور له اهتماماته القرائية، ورؤيته: الأدبية، والفكرية، والسياسية. وكل أديب، أو مفكر، أو مثقف يستبطن اهتماماته المغايرة لمن حوله.
ومن حقي، وحق الآخر أن نجد عند [الوزارة] استعداداً للسماع، والحوار، والاستجابة. أو الإقناع بجدوى البدائل. وفي النهاية لا بد من الحسم، والعزم، والتوكل على الله، بحيث لا تترك الأمور حتى تحترق، ستظل الأطياف في جدل يتصاعد، ومهمة الوزارة جسم الموقف في الوقت المناسب، وواجب الأطياف القبول بالخيار الأخير.
لا أقول إلا أعان الله كافة المسؤولين، وسدّد خطاهم. وربط على قلوبهم، وثبّت أفئدتهم.
الثقافة، والمثقفون كعش الدبابير:- [ولا بُدَّ دُونَ الشَّهْدِ مِنْ إبَر النَّحْلِ].
إذا كانت النخب، وعلى مدى قرن من الزمن لم يَصلوا إلى تحديد دقيق، جامع، مانع لـ[الثقافة]، و[المثقف]. فإن المسؤول سيكون متردداً مثلهم.
- فما الثقافة؟
- ومن المثقف؟
- ومن يملك حق التعريف، والتحديد؟
إذا قلنا بأن الثقافة:- [الأَخْذُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ بِطَرَفٍ]. أو قلنا هي:- [مَعْرِفَةُ كُلِّ شَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ، وَمَعْرِفَةُ شَيْءٍ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ].
فإننا لا نستطيع أن نرتهن المثقف على التحصيل المعرفي المتنوّع، ولا أن نرتهن الثقافة لمجرد [الوِجَادَة] المعرفية.
الثقافة في عصر التحولات شيءٌ آخر. إنها أفق رحب، يخفق في فضائها صقور، وحمائم، وبغاث، و: - [بُغاثُ الطيرِ أَكثرُها فِراخاً].
وزير إحدى الدول المتخلِّفة، حضر أحد المؤتمرات [اليونسكية] وسمعهم يتحدثون عن [الأمية]، وسمع من يقول: مَنْ [يكتب، ويقرأ] غَيْرُ أمي. فرفع يده، وقال: شعبنا يقرأ، ويكتب. وإذاً فلسنا أميين، ولسنا مستهدفين بقرارات المؤتمر.
وفات هذا الوزير المفهوم الحضاري [للقراءة، والكتابة]، في عالم تجاوز الأبجديات.
[المثقف] لا يكون مثقفاً حتى يجمع بين: المكتسب المعرفي، والتطبيق السلوكي.
و[الثقافة] معرفة متنوِّعة، وسلوك حضاري منضبط. و[المثقف] وعي، وتصرف نخبوي ملْتزم، قبل أن تكون الثقافة كَمَّاً معرفياً. وقبل أن يكون المثقف ملماً بالتراث، والمعاصرة إلماماً معرفياً. الثقافة توظيف، والمثقف ممارسة.
يتبع...