النفس الأمّارة -كما نوهت في المقالة السابقة- هي نفس لا تكف عن الثرثرة الشريرة الخافتة، التي أطلق عليها خالق النفس البشرية (الوسوسة). وقد جاء في سورة الناس أن مصدرها جهتان، هما: الجن، والناس. أي: «أنفسهم». استعرت لها وصفًا يليق بها، هو «العدو الحميم»، وجرى تسميتها بـ: EGO.
بعد عرض نفسك بتجرد ونزاهة على أنواع أحاديث النفس، وغوايتها الخفية، ونماذج الفخاخ المضروبة بإحكام حولك، وأساليب المكر والخدع والزيف التي انطلت عليك زمنًا، سنجد:
* في الأفكار التي هي محل التعدد، ومظان الاختلاف، النفس الإمارة لا تؤمن بتعدد الآراء واختلاف وجهات النظر؛ فصاحبها من يحتكر الحقيقة، وغيره ضال مسكين تائه! هو من اهتدى للرأي السديد؛ لذا فرأيه هو ما يستحق فرضه وتعميمه على الآخرين. وإن زعم غير ذلك إلا أنها مجرد ادعاءات، يتزينون بها كثيرًا على المنصات، ويتشدقون بها في البرامج، وكذلك على المنابر؛ إذ لا يوجد في عالم النفس الأمارة فصل بين الرأي وصاحبه.
* العدو الحميم يميل إلى استعارة عقلية المحقق، وشخصية رجل المباحث؛ فمنهجه قائم على الريبة، ودليله سوء الظن، وأسئلته تحوم حول كيف أثبت صحة شكوكي! لأن الدليل الساطع لا يحتمله من اعتاد العيش والنمو في العتمة!
* «العدو الحميم» جعلت صاحبها عالقًا بطاحونة بالخارج، أشغلت قلبه إما بالمقارنات الجائرة بينه وبين الآخرين حوله، سواء في تكاثر الأموال، أو تتابع الإنجازات.. وإما أن تكوي نفسه بالصراعات الفكرية، وتشتت ذهنه بالأوضاع السياسية، وبتردي الأوضاع الاقتصادية.. وإن لم يكن من ذوي الاهتمامات الأممية فإرخاء السمع لحديث الجارة ولنميمة الصديق ولمنافسة الزميل ومكيدة مدير وخيانة زوج! كلها قصص درامية محبوكة برعاية وساوس النفس الأمارة.. ذلك كله يتنامى معه الشعور بفرادة وتميز وجوده.
* «العدو الحميم» تتنقل بصاحبها بأرجوحة عبر مسارات الزمن؛ فهو متأرجح بين تجارب موجعة من الماضي، أو فرح مؤجل وأمانٍ عالقة في المستقبل، في حين تتسلل اللحظات الحاضرة تباعًا من بين يديه، وتنفرط حبيبات عمره إثر بعض.
* لا يسمح بالمتعة المتزنة، ولا بممارسة الفرح المشروع.. وأعذاره في ذلك التعاطف الزائف مع المستضعفين من المسلمين، أو التألم الواهم لواقع المجتمع الغارق في الترف والغفلة. وقس على ذلك. ويعود ذلك إلى أن حصول البهجة للنفس تشبه نزول الغيث للأرض؛ فبها تهتز النفس، وتربو على جراحها المفتعلة، وتنبت بالتفاؤل والهدوء الذي هو بداية لفصل جديد. وهذا تحول جديد، ليس في مصلحة العدو الحميم.
* النفس الأمارة «العدو الحميم» لا تفضل الإبداع، وتحارب المبدعين؛ لأنها ستسحب من تحتها البساط الأخضر الذي طالما تبخترت فوقه زمنًا. ومما يسهل عليه تمرير أكاذيبه على نفسه وعلى المحيطين هو اتهام المبدع بالابتداع والتناصح بإقصائه! إنها محاولة مخادعة للشعور بالأمان تجاه التهديد القادم.
* «العدو الحميم» تميز صاحبها بالاستعلاء.. ربما اكتسبه من شهادته العلمية، أو منصبه الاجتماعي، أو الديني.. وهذا ما يحمله على تجاوز الحدود التي خطها الشارع له؛ فيسهل عليه ممارسة دور الموقِّع عن رب العالمين بتعقب الآخرين، والارتياب بشأنهم، والتسرع بتصنيفهم، وبإصدار الأحكام عليهم.
وبعد هذا الاستعراض السريع لأبرز محاولات العدو الحميم للإيقاع بك، وسحب بساط الحياة برمتها من بين قدميك، بقي السؤال:
ما الإجراءات الواجب اتخاذها حيال ذلك؟
1- أولاً وقبل كل شيء اعترف بثغرات القصور فيك، تلك التي تسلل من خلالها عدوك الحميم، وسيطر عليك زمنًا. الاعتراف بالنقص يقودك إلى الإحساس الواعي بالمسؤولية الفردية تجاه واجب التغيير الشخصي.
2- تذكَّر جيدًا أن الخوف المرضي هو الذي أعطى لعدوك الحميم صلاحيات واسعة للتلاعب بك، والنيل منك؛ لذا تخلَّص من الخوف المرضي بممارسات عدة، منها:
* {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ. مَلِكِ النَّاسِ. إِلَهِ النَّاسِ. مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ. الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ. مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}. حين ترددها في صلاتك وأورادك أرسل معها معنى أن تفوض أمرك كله لملك الناس، إله الناس.. لُذْ به كلك، وفِرّ من نفسك إليه.. تحصن بجلاله واحتمي بحمى مملكته؛ فهو حسبك وكافيك من وساوس نفسك الشريرة التي تقطن بين أنفاسك، وهي وإن كانت خبيرة بمصائدك إلا أنها هشة ضعيفة، تذوب حالما يُذكر اسم الله تعالى.
3- انزع فتيل الأفكار السيئة؛ فهي التي تؤجج المشاعر، وتحبك الأحداث، وتؤز الأتباع.
4- عُدْ إلى حقيقة إيمانك وتوحيدك لربك {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (82) الأنعام. بينما حين يعظم في قلبك الشخوص والأشياء من حولك، خوفًا ورجاء، فحالك أبدًا دائر بين الخوف والشقاء.
5- تحكَّم في ردات فعلك تجاه ما يحدث حولك.. تحرر من قبضة عاداتك بانتقالك القسري من ممارسة دورك الذي أمضيت شطرًا من عمرك في تمثيله، وهو دور الضحية أو المسيطر المتحكم، لدور الشاهد على الحدث، والمراقب لتداعياته.. وتذكر حدود رسالتك في الأرض {لسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} (22) الغاشية.
6- خالط أهل البراءة، سواء من الأطفال أو البسطاء من عجائز أهل الإيمان؛ فالأطفال لم يعلُ صوت النفس الأمّارة في دواخلهم بعد، والعجائز ذاقوا التجربة، وأدركوا تفاهتها، وأن الخسارة الكبرى في تصديق «العدو الحميم».