د. عبدالرحمن بن محمد الغزي
لابد لكل مجتمع من افتراق، ولكل دان من تناء، وتلك عادة الله في العباد والبلاد حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، وما شيء من دواهي الدنيا يعدل الافتراق ولو سالت به الأرواح فضلاً عن الدموع كان قليلاً، يقول أحد الحكماء وقد سمع قائلاً يقول: الفراق أخو الموت، فقال: بل الموت أخو الافتراق.
وسمع ابن داود بكلام الجاحظ الذي أورده صاحب الزهرة في المجلد الأول ص 137 وهو: لكل شيء رفيق ورفيق الفراق الموت، فعلق عليه ابن داود قائلاً: بل لكل شيء رفيق ورفيق الافتراق الموت.
لأن سترتك بطون اللحود
فحزني بعدك لا يستتر
من عرف أبي عبد الرحمن سعود بن عبد الرحمن السديري ومن منا لا يعرفه لم يستغرب ما قيل فيه وعرف أن رثاءه سنة بدليل قوله (ص) (اذكروا محاسن موتاكم).
يتصف رحمه الله بالأدب الرفيع والقول البديع. يقول رحمه الله: العقل مقدم حتى على العلم فإن تصرف الإنسان قد يقضي عليه إذا لم تصدر تصرفاته عن عقل.
فالعقل في ترتيب المناقب عند الإنسان هو الأول.
واعتبر هذا القول من مفردات الفقيد.
حدثني والدي عنه عليهما رحمة الله فقال: أي بني من عرف هذا الرجل عرف أنه رجل التأمل والتأني، يحب المبارزة في العلم والأدب ومقارعة أهل العلم حتى أن له مع هيئة كبار العلماء بعض الردود والمساجلات العلمية وذلك على زمن الإمامين الصالحين، الإمام محمد بن إبراهيم والإمام عبد العزيز بن باز رحمهما الله.
يحمل رحمه الله عقلاً مدركاً لما حوله مستعملاً له فيما ينفع. يقول رحمه الله وقد جاء الحديث عن الملك فيصل: الأجسام ابضاع ولحوم وإنما تتفاضل بالعقول، فإنه لا لحم أطيب من لحم، أما العقول فتتفاضل، والملك فيصل يفضلنا بعقله ولولا العقل ما عرفت الأيدي تدبير الأمور ولا ما تصنع.
تزامن مجيئي في تعزية أولاده الكرام ليلة اثنين وعشرين من شهر رمضان لعام 1439هـ مجيء سمو الأمير: بندر بن سعود بن محمد فتحدث سموه عن الفقيد السديري وقال: والنعم فيه ولا يستغرب أن يقال عنه من الثناء والدعاء ما قد قيل وعلى العموم هو من أسرة معروفة مباركة ذات أصل ثابت مع هذه الدولة المباركة في أطوارها الثلاثة. انتهى قوله.
قلت: وما أجمل كلمة الحق إذا صدرت من أمير غني عن التعريف وعن التقرب كسمو الأمير بندر.
قال والدي عنه: عينه الملك عبد العزيز أميراً على مهد الذهب والذي أصبح الآن محافظة كبيرة وهو ابن عشر سنوات وعين مشرفاً عليه أحد الرجال المعروفين ولما بلغ الحلم جاء نقله من الملك فيصل وكيلاً لإمارة المدينة المنورة وكان أميرها آنذاك الأمير عبد الله بن سعد السديري ونقله الملك فيصل أميراً على الباحة، وبقي في الباحة حتى طلب التقاعد للتفرغ لأموره الخاصة وكان الملك فيصل من المحبين له المعجبين فيه.
وما شيء أثقل على أبي عبد الرحمن من الغدر. تحدث ذات مرة عن نفسه فقال: لعمري ما سمحت لنفسي قط في الفكرة في الإضرار بأحد وذلك بمن بيني وبينهم أقل ذمام وإن عظمت جريرته وكثرت إلي ذنوبه، ولقد دهمني من هذا الأمر غير قليل فما جزيت على السوء إلا بالحسنى والحمد لله على ذلك كثيراً وبالوفاء افتخر ثم تنفس الصعداء وقال:
يذيعون في غيبتي عجائب جمة
وقد يتمنى الليث والليث رابض
يقول عن نفسه رحمه الله: حصل لي شيء من المخالفات بما لا عهد لي بمثله، وإن الشيء يتضاعف حسنه عند مستحسنه فاستحسنت الصبر حتى ظفرت بحاجتي وبهذا أوصيت أولادي.
ويقول رحمه الله: بلوت من نفسي بخصال عدة محمودة وذلك أنني ما كذبت قط، ولا هممت بأمر سيء قط، وما فعلت ما يخالف أمر الله قط، وحرصت على الأمانة، وحرصت على إكرام الجار والضيف وطاعة ولي الأمر. وحرصت أن أشفع في أمر واضح عند ولي الأمر وإن لم أشفع.
قلت: وهذه الصفات المحمودة عنده هي في الحقيقة ما ذهب إليه طماحه ومجده وعلوه.
يقول رحمه الله: سافرت من الغاط إلى الرياض وكنت في أول أمري والحياة ميسورة ومعي عشرة ريالات عربي في جنب منديل، وفي الرياض خرجت للتمشية في أسواقها، فمررت بصاحب دكان كان يبيع المشالح الخاصة فرأيت مشلحاً وقع عليه نظري فاستحسنته ونويت شراءه وكان الرجل لا يعرفني فقال: ليس هذا للبيع، فتماسكت معه وقلت له: يا أيها الرجل دع عنك ما يغيظ وأقصد الثمن واختلفت معه على القيمة ولشدة ما جابهني به ما استطعت أن أخاطبه في المساومة فوقفت حائراً، وقلت له: اشتريت بما تقول وأمهلني في باقي القيمة ساعة واحدة فلم يقبل، وإذا بشيخ من التجار قد خرج من دكانه ذاهباً إلى بيته، فوثب إليه صاحب المشلح من دكانه وقال: أيها الرجل هذا مشلح شتوي جاء إلي الآن واحمله إلى بيتك فقال الشيخ ويحك بكم هذا فقال: بكذا فقال بل بكذا فباعه المشلح بأقل مما قلت له. وحمله معه إلى داره ودعا له وعاد إلى دكانه مسروراً بما فعل فقلت: يا هذا ما رأيت أعجب من جهلك استمت علي في هذا المشلح وفعلت فعلتك وقد أعطيتك أكثر مما اشترى به هذا الشيخ فقال: اسكت يا هذا فهذا المشتري يملك مائة ألف ريال عربي ثم تبسمت من قوله وانصرفت من عنده. وقد قص القصص على الملك فيصل فضحك وقال: يا سعود، وللناس فيما يعشقون مذاهب فكرور الأيام أحلام، وعداؤها أسقام وآلام.
قلت: هذا هو سعود وكأني به يتمثل قائلاً:
انت طوراً أمر من ناقع السمم
وطوراً أحلى من السلسال
هذا هو سعود، شارك رحمه الله مع عمومته وأبناء عمومته في توحيد المملكة الغالية وأحاطوا بها إحاطة الجيد بالرقبة وأبلوا في ذلك بلاء حسناً حتى إن الملك سلمان حفظه الله يقوم بزيارتهم ولا يرضى بهم بديلاً، كما أنه لا يقبل بصدور الخطأ من أحدهم، وأبي عبدالرحمن أديب في حديثه، أديب في مخاطبته للآخرين، لا تمل مجلسه ولا مجالسته إذا تحدث قلت: ليته لم يسكت حتى سار ذكره وانتشر خبره عند الحاضرة والبادية.
وقد فارق الناس الأحبة قبلنا
وأعياء دواء الموت كل طبيب
نعم هذا الفقيد سعود بن عبد الرحمن السديري، أدعو له بالمغفرة والرحمة، وكذلك والدي ومن له حق علي وأعزي فيه:
أولاً: أولاده الكرام، وأقول لهم ما مات والدكم لجميل فعاله وصدق أقواله:
تلذ له المروءة وهي تؤذي
ومن يعشق يلذ له الغرام
وثانياً: أعزي فيه والد الجميع الملك سلمان حفظه الله وأقول إنك تفرح لفرحنا، وتتألم لآلامنا.
أدنى ابتسام منك تحيا القرائح
وتقوى من الجسم الضعيف الجوارح
وثالثاً: أعزي أسرة آل السداري وأسرتي وأهل محافظة الغاط وأقول لهم:
ولكن تفوق الناس رأياً وحكمة
كما فقتهم حالاً ونفساً ومحتدا
** **
رئيس محاكم جازان - رئيس محكمة استئناف - عضو مجلسي القضاء الأعلى والأعلى للقضاء سابقاً