لا أحد يشك لحظة واحدة أن الموت أقرب إليه من حبل الوريد، ويدرك المؤمن بهذه الحقيقة أن هذا الزائر المنتظر حينما تحين ساعة زيارته لا يستأذن مزوره، ولا يميز في ذلك بين كبير وصغير ولا مريض وصحيح ولا رجل وأنثى. غير أن من فضل الله تعالى ورحمته أن أنزل السكينة على عباده، ومنحهم طول الأمل، لعمارة الأرض ونشر الخير، ومدافعة الشر، ثماني سنين قضيتها في مجلس الشورى عضواً ثم أميناً عاماً وفي كلا الحالتين تزاملت مع معالي أخي وصديقي محمد بن أمين الجفري منذ أن كان عضواً في المجلس ورئيساً لإحدى لجان الصداقة البرلمانية التي كنت عضواً فيها حيث تميز بمهنيته العالية، وسعة صدره وبعد نظره، وقد أبدى إخلاصاً منتجاً، وعملاً منظماً؛ ثم نائباً لرئيس مجلس الشورى، وبلغ من حسن تعامله مع زملائه أنني يوماً طلبت الكلام في إحدى جلسات المجلس التي رأسها، وحين أعطاني الفرصة للكلام قال: دكتور محمد آل عمرو تفضل ونطق واو عمرو الذي لا ينطق، فقلت له: معالي الرئيس صحة اسمي محمد آل عمرو بتسكين الميم والراء ثم بدأت مداخلتي وما انتهيت منها إلا وقد أرسل لي مذكرة صغيرة بخط يده يعتذر بلطف عن عدم نطق الاسم بشكل صحيح، وما كان الأمر يستدعي ذلك ولكنها أخلاق الرجال الكبار.
ثم زاملته عن قرب أربع سنوات وثمانية أشهر حينما كنت الأمين العام للمجلس واشتركنا معاً في التحضير للكثير من أعمال المجلس التي تدخل في اختصاص الأمانة العامة أو في اختصاص الإدارات المرتبطة بمعاليه، عملنا معاً للتحضير لتفعيل الدبلوماسية البرلمانية، رافقته في بعض المشاركات البرلمانية خارج المملكة، وعملنا معاً لترشيد وتوجيه برامج تدريب الموظفين، وعملنا لتطوير معايير الترقيات العليا لموظفي المجلس، كان يحرص على قراءة الموضوعات المجدولة على جدول أعمال المجلس بدقة متناهية ثم يتصل بي ليستفسر عن بعض التفاصيل، عملنا معاً على وضع التصور الأساس لتطوير أعمال المجلس وفقاً لرؤية المملكة 2030، ثم شكل لجنة موسعة لدراستها.
كان يرأس جلسات المجلس عند غياب الرئيس في مهام خارجية أو مسؤوليات داخلية فكان حريصاً على تطبيق قواعد عمل المجلس، وكثيراً ما يستأنس برأيي أثناء الجلسة في بعض الأمور الاجتهادية، وكان بيننا تناغم كبير خلال الجلسة، وفي جلسات محدودة يحدث بعض ما لا يريده من التوتر مع بعض الأعضاء فيعمل ما بوسعه لتهدئة الأمور واحتواء الموقف، وتجنيب المجلس تأثر قراراته بتلك اللحظات العارضة، حتى إنه أحياناً يعطي الفرصة لجميع طالبي الكلام على القائمة تطييباً لخواطرهم وتقديراً لمشاركتهم، وما إن تنتهي الجلسة ويصل إلى مكتبه ويؤدي صلاة الظهر حتى يتصل بي في مكتبي للتأكد من حسن سير إدارة الجلسة، ومناسبة تعاطيه مع تلك المواقف العارضة، كان محباً لكل الأعضاء حكيماً في تواصله معهم.
كان حريصاً على تزويده بكل ما يصدر عن المجلس من خطابات أو قرارات حتى لا يفوته ما يجب عليه معرفته بحكم عمله نائباً للرئيس، وعلى الرغم من أن مكتبه يزود بصور تلك الخطابات آلياً حين صدورها لكن يحدث أحياناً عدم عرضها على معاليه لأي سبب فني أو غيره، فإذا عرف لاحقاً عن خطاب أو قرار أو دراسة لم تعرض عليه اتصل بي معاتباً، وليقيني أن مكتبه قد زود بها استقبل مكالمته بهدوء وأعده ببيان السبب حالاً، ثم أرسل إليه الموظف المختص فيجد أنها قد توقفت لدى الموظف المختص في مكتبه، فيتصل مرة أخرى في خلق رفيع معتذراً وطالباً تقدير حرصه على الاطلاع على تلك المعاملات.
كان لديه حساً وطنياً مرهفاً فكان يردد دائماً حينما ننجز معاً عملاً مشتركاً قوله إن الله قد أكرمنا بهذه المناصب لنخدم ديننا ووطننا دون أن نسعى لها، فلنؤدي ما علينا من واجبات حتى إذا غادرنا المكان لا نجد في أنفسنا شعوراً بالذنب لتقصير ولا لوماً للذات للتهاون.
كان لديه حساً مرهفاً لتقدير المسؤولية فقد كان في اجتماعات الاتحاد البرلماني الدولي يجلس في القاعة الرئيسة مستمعاً لكلمات الوفود التي تستمر ثلاثة أيام من التاسعة صباحاً حتى الخامسة عصراً لا يغادر مكانه إلا عند توقف الكلمات للغداء، فيكون من رؤساء الوفود القلائل الذين لا يغادرون القاعة حتى ينتهي الجدول اليومي لكلمات الوفود.
رأس عدة وفود من المجلس إلى بعض البرلمانات المؤثرة دولها في القرارات الدولية من أبرزها مجلسي الكونجرس والنواب الأمريكيين والبرلمان الأوروبي وبعض الدول الأخرى وعقد خلال تلك الزيارات لقاءات مهمة وأجرى حوارات صعبة بين خلالها السياسة الحكيمة للمملكة وجهودها في أمن واستقرار المنطقة وفضح مخططات الدول الداعمة للإرهاب في الشرق الأوسط، وجهود المملكة في استقرار ودعم الأسواق العالمية للبترول، وفي الأعمال الإنسانية والإغاثية التي شملت جميع دول وشعوب العالم المحتاجة دون تمييز، إضافة إلى بيان حقيقة ما يثار من شبهات ومغالطات حول حقوق الإنسان والمرأة في المملكة.
كان حريصاً على التحضير الذهني والمعرفي المهني لأي اجتماع بالوفود الدبلوماسية والبرلمانية الزائرة.
وكان محباً لمساعدة المرضى المحتاجين للعلاج وخاصة الأمراض المستعصية، فكان يخبرني بأنه لا يجد حرجاً في الشفاعة للمرضى لدى أي جهة أو مسؤول يمكن أن يقدم لهم عوناً أو رعاية طبية، معداً ذلك زكاة جاهه في منصبه.
كانت تضايقه بعض التغطيات الإعلامية التي تتعرض لشخصه وتنتقد إدارته للجلسة ليس حمية لنفسه ولكن خشية أن يكون قد خالف قواعد العمل دون قصد، فيطلب مني مراجعة محل المداخلة حتى إذا تبين له التزامه بقواعد عمل المجلس اطمأن وطابت نفسه.
كان متواضعاً تواضع المؤمن ببركة دعاء الوالدين ويخبرني بأنه فقد أمه صغيراً ويطلب مني دائماً أن أطلب من أمي التي تجاوزت التسعين سنة أن تدعو له باسمه فكانت تدعو له، وأخبرته يوماً أنها دعت له بدعاء لم أسمعه منها من قبل حيث قالت: «اللهم اجعل لمحمد الجفري في العدو صديق وفي الصفا طريق» فسر بهذا الدعاء.
كان وفياً لزمالتنا في خدمة ديننا ووطننا فكان يتصل بي بين الفينة والأخرى بعد أن أعفيت من منصبي ليطمئن علي وعلى أحوالي، وكان دائم السؤال والدعاء عندما مرضت زوجتي حتى أخبرني يوماً أنه وأهله في المسجد الحرام ودعوا لها بالشفاء، اتصل بي معزياً بعد موتها فسمعت منه عبارات من الدعاء لها والتعزية لي ما سمعت بمثلها من أحد، وما كان هو ولا كنت أنا نعلم أنه سيلحق بها بعد سبعين يوماً من وفاتها، فرحمك الله أبا فارس وغفر لك ذنبك، وجعل ما قدمت من عمل لدينك ووطنك في موازين حسناتك، ووسع مدخلك وجعل قبرك روضة من رياض الجنة وباعد بينك وبين النار كما باعد بين المشرق والمغرب وغسلك بالماء والثلج والبرد ونقاك من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
** **
- د. محمد بن عبدالله آل عمرو - الأمين العام لمجلس الشورى سابقاً