د. محمد بن إبراهيم الملحم
كما قلت سابقاً فإن الدول التي تتقدم اقتصادياً هي غالباً متقدمة تعليمياً سواءً كان تقدمها بسبب التعليم ذاته كما في بعض دول الشرق أو بسبب سبق الابتكار واحتكار الموارد بالقوى السياسية كما في الغرب، وما أدى إليه الاهتمام بالتعليم في الغرب هو الحفاظ على المكانة الاقتصادية ورفاه العيش التي حققتها تلك المجتمعات تاريخياً باختلاف وسائلها (غير التعليم) ليكون التقدم التعليمي وسيلة الاستدامة sustainability والديمومة لذلك المستوى المتقدم، كما أنه يحقق لها مزيداً من الرفاه من خلال خلق «الوعي» و«الثقافة» والتفاعل الإيجابي مع بقية الحضارات أو الثقافات الأخرى. والمسار نفسه سلكته أيضاً دول الشرق التي أحدثت ثورات اقتصادية من خلال التغيير التعليمي (كوريا، ماليزيا، سنغافورة، هونغ كونغ، الصين) فأصبح أمامها مهمة الحفاظ على هذه المكانة الاقتصادية فكان ذلك من خلال التعليم نفسه أيضاً.
وبالنسبة للمجتمعات المتأخرة تعليمياً فإن أهم خطوة في التغيير هي التي تلك التي تنتج التغيير المربك وهو تغيير نوعي حقيقي وإيجابي كما أسلفت في المقالة السابقة، وحتى تحدث مثل تلك الخطوة «الجريئة» غالباً فلا يتوقع أن تنتج من اجتهاد تفكير أو تفاكر فردي لوزير أو مسئول، بل هي نتاج دراسة واعية للواقع وتحليل ينضح وعياً بمسارات خطط التنمية وكيفية التماهي معها مع إلمام كاف بتجارب التعليم المحلية والدولية، ولذلك ينبغي أن تكون الدراسات والأبحاث والتقارير وأوراق المقترحات مرتبطة بخطط التنمية بشكل واضح فلا تكون لغتها مجرد تنميقات بلاغية للطموحات الوطنية لا تسمن ولا تغني من جوع عند عرضها على مقاييس العلاقة والتأثير والتأثر والوظيفة والنتائج. إن البحث العلمي الأصيل متقن التصميم واثق الأهداف وعميق الصلة بالتنمية هو ما يخدم القرار الوطني وسأستعرض معكم بعض الأمثلة.
في الولايات المتحدة هناك عدة مؤسسات تعنى بالبحث العلمي أو جمع المعلومات لمساندة القرارات التي تتخذ بشأن التعليم وأهمها المركز الوطني للإحصاءات التعليمية National Center for Education Statistics وهو يخدم الكونجرس ووزارة التعليم وكل اللجان والجهات متخذة القرار حول الشأن التعليمي بل يقدم معلوماته لكل الباحثين عن المعلومة داخل وخارج الولايات المتحدة، كما أنه يقوم أحياناً بجمع معلومات تعليمية خارج نطاق الولايات المتحدة. ويعتبر من أهم مصادر المعلومات حول التعليم الأمريكي لاتخاذ القرارات الاستراتيجية والمالية والتوسعية وما إلى ذلك من القرارات الفيدرالية ويليه جهة تهتم بالجانب النوعي في التدريس والمناهج ووسائل التدريس والتقييم وما إليه وهي مكتب البحث والتحسين التربوي The Office of Educational Research and Improvement (OERI) وهو يتبع وزارة التعليم لكنه يعمل شراكات مع جهات متعددة خاصة الجامعات الوطنية الكبرى، حيث يدعم مراكزها البحثية في مجالات تخدم أهدافه مثل أبحاث الطفولة المبكرة - المناهج - وسائل التدريس - التمويل - النمو المهني وما إلى ذلك.
الجميل في الموضوع أن هذه الجهة ذاتها يتم تقييمها من حين لآخر، ففي عام 1992 شكّلت بأمريكا لجنة مكونة من 15 عالماً وخبيراً تربوياً لدراسة أبحاث مكتب البحث والتحسين التربوي وأثرها على قرارات الحكومة الفيدرالية الأمريكية، ووجدت اللجنة أن البحوث أعطت معلومات مفيدة لمتخذي القرار حول حالة النظام التعليمي الراهنة: مشكلاته ومدى تحقيقه لأهدافه وكذلك حول مدى جدوى المحاولات الإصلاحية باختلاف مستوياتها وجدوى الأفكار والابتكارات التربوية الجديدة، كما شخّصت أهم المشكلات والعوائق التي يعاني منها هذا المكتب وأوصت بعدة توصيات للارتقاء أكثر. لعلي أزيدكم بياناً لاحقاً حول أمثال هذه الجهات في بلاد ومجتمعات أخرى غير الولايات المتحدة.