د. حمزة السالم
لو بحثنا عن القواعد التي تحكم العلة المنصوصة بالوحي، «كل مسكر حرام وما أسكر كثيره فقليله حرام»، لوجدنا على الأقل ثلاث عشرة من القواعد والدلائل على العلل المستنبطة الصحيحة. ولو نظرنا لخلق الله في الطبيعة لوجدنا هذه القواعد والدلائل مطردة في سنن الله في الكون، كسنة قدح زندي حجر يبدأ الشرارة ما توفر الأوكسجين وامتنعت الرطوبة.
وقد ذكرنا ثماني قواعد في المقالين السابقين، ونكمل هنا بقية الخمس التي تصلح كذلك كقواعد تُعين على التفريق بين العلة والسبب والشرط والمانع.
فالتاسعة أن النص الشرعي دائماً أعلى مرتبة من الظن مهما كانت مرتبته: بغض النظر عن كون مرتبة الظني علة أو سبباً أو شرطاً ومانعاً. فمتى منع نصٌ علة ظنية في قيام أصلها أو اكتماله، (لا في منع أثرها، -وهو الحكم-) دل هذا على بطلان استنباط العلة. ولا يحتج بأن العلة أعلى مقاماً استنباطياً من غيرها في استنباط الحكم.
والعاشرة أن العلة أعلى مقاماً استنباطياً من السبب فما دونه. وذلك واضح، لأن السبب أعلى من الشرط والمانع، فهما تابعان له في الحكم، ولا يتبعهما.
ومبررات علو مرتبة العلة الاستنباطية، على السبب أربعة، أولاً: أننا إذا أدركنا العلة، أغنت عن السبب ولا عكس، فعلة السكر أغنت في استنباط الحكم بالتحريم عن معرفة السبب، كالكحول مثلاً. وثانياً: لأن العلة لا تتغير بتغير السبب والشرط والمانع. وثالثاً: لأن العلة لا تتعدد في حكم واحد بخلاف السبب. ورابعاً لأن العلة لا يتوفر لها بدائل لحكم واحد. فالسبب قد تتعدد مسبباته وعللها. كالكحول يُسبب الإسكار، وتُسبب التطهير كذلك، وجعلها الله كذلك سبباً لمنافع ومضاراً أخرى. ومن الجانب الآخر، فقد يكون هناك ما يسبب الإسكار غير الكحول ولكن السكر هي حالة الإسكار ثابتة، لا تتغير ولا تتعدد.
وأما القاعدة الحادية عشرة، فالعلة لا تقوم بنفسها دون الأثر، أي لا توجد ثم لا يوجد الحكم، فالنصاب سبب الزكاة. وقد يبلغ مال النصاب، ولا تتحقق فيه علة الزكاة، لأنه قد نُمي عرفاً، فخرج عن حالة كونه قابلاً للإنماء. كأن يكون المال عبارة عن مسكن الرجل، وهي علة زكاة النقدين. فسبب الزكاة قد تواجد، ولم يتواجد حكمه، لغياب العلة.
وهذه قاعدة عظيمة عند السبر والتأمل. فتبادل النقد بيعاً وشراء، بالأجل ومفاضلة، سبب لحكم الربا، لكن لم تتوافر علة ربوية صنف من الأصناف الستة في النقد. فلما لم تتواجد علة، لم يتواجد حكم ينسخ حكم الله بالبراءة الأصلية بالجواز.
فحقيقة التحريم، أنه نسخ لحكم الله سبحانه، وقد بعث لنا نبيا يعلمنا الاستنباط ويعطينا أدواته بمثال علة (لو اجتمع مناطقة الأرض على جرح، منطقيتها لعجزوا). فليتق الله من يتجرأ بالتألي عليه سبحانه، بنسخ أحكامه، برأي أو باستحسان أو بظن.
والثانية عشرة، أن المانع والشرط لا يوجبا حكماً بذاتهما، ولا يلزم وجودهما له، بخلاف العلة والسبب. وهذا واضح.
والقاعدة الأخيرة ختام جامع، وهي أن العلة المتعدية - التي يقاس بها- تكون وصفاً ثابتاً مُلازماً لا يتغير، بينما العلة القاصرة -التي لا يقاس بها- تكون جوهر الشيء لا وصفه:
فعدم إدراكنا لعلة قياسية في حكم معاملة، فإنما هو إدراك للحكم الشرعي. فعدم استطاعتنا استنباط علة منضبطة بهذه القواعد، لا ينفي وجود العلة، إنما يقصرها على المنصوص عليه في النص، حتى يشاء الله فيفتح على عباده بها، وهو ما يطلق عليه بعض الأصوليين، بالعلة القاصرة. وهي علة غالب الأحكام الشرعية.
والعلة القاصرة كعلة الحكم بالرق مثلاً، وعلة تحريم الحرير، وعلة الربا في النقدين وعلل زكاة الأنعام. فعلة تحريم لبس الحرير على الرجال كونه حريراً، فلا يقاس عليه الحرير الصناعي. وعلة الربا في الذهب في كونه ذهباً أي في جوهره حقيقة. وعلة زكاة الإبل في كونها إبلا في ذاتها لا وصفاً. فلا يقاس نقد على ذهب بعلة الثمنية فيصبح مالاً ربوياً. ولا طائرة بحملها متاع الناس، على بعير فتصبح زكاتها ونصابها كزكاة الإبل.
بينما نرى أن علة الزكاة في القمح كونه قوتاً، فما دام البشر بشراً، فالقوت وصف ثابت لازم للقمح. والقوت ليس هو القمح ذاته، إنما صفة له. لذا فأي شيء يكون قوتاً يأخذ حكم القمح في الزكاة.
ولهذا، فالقياس بالعلة القياسية هو في حقيقة منتهاه، يكون بتشبيه في الصفات اللازمة للشيء التي لا تتغير ولا تتبدل. وتنضبط في الأصل وفي أي فرع توجد فيه هذه الصفة، والتوسع في هذا، يكون في قياس الشبه والفرق فيه بين الصوري والحقيقي.
فهذه ثلاث عشرة قاعدة لضبط استنباط العلة القياسية، على ما سبرته من العلة المنصوصة بالوحي، والله أعلم، فسبري إياها لا يعني شمولها، بل يستحيل ذلك، فكم من قاعدة لم يحط بها إدراكي، ولم يقدر على وضعها فهمي.