عبدالعزيز السماري
الإنسان مهما اختلفت أوضاعه قد يكون عرضة للظواهر النفسية، ولعل أول مراحلها اليأس والإحباط، ونتيجتها الفشل في تجاوزهما. ووجه الخطورة ليس في الحالات الفردية، ولكن في تضخمها في المجتمع، ثم بروزها كحالة نفسية جماعية، وذلك عندما يتحول المثقف إلى أداة لتدمير الهوية، وإلى الانسياق الكامل مع الآخر المهيمن، ثم الرضوخ إلى شروطه، في حالة أشبه بالاستسلام العقلاني التام إلى الآخر.
يحكي مسلسل بوكوندوس، وهو سلسلة كرتونية كوميدية، قصة رجل أسود يمارس عنصرية متطرفة ضد السود، ويرفض الاعتراف بكونه أسود، رغم أن تكوينه البيولوجي أفريقي، وعلى الرغم من ذلك فإن العم روكوس يخرج ليعيش حياته متنكراً في ظل وهم أنه أبيض، فيتحدث الإنجليزية بلكنة البيض الجنوبيين، ويتداوى بأدوية لتبييض سواد جلده، ولا يتوقف الأمر على ذلك، ولكن يمارس مواقف عنصرية ضد الآخرين من ذوي الأصول الأفريقية..
تحكي هذه القصة قضية كراهية الذات إلى درجة التماهي مع الشخصية التي تجلد أمثاله في ظل عنصرية مقيتة وفوقية تحتقر المختلفين والأضعف في المجتمع، وليست هذه الفكرة حكراً على قضايا العنصرية في أمريكا، لكنها تبرز في مختلف المجتمعات، وعادة تكون نتيجة الشعور بالهزيمة أمام الآخر لدرجة الاحباط والكراهية، وتنتشر بين الأقليات والنساء، لكنها تكون كارثية عندما تكون خطاباً ثقافياً في مجتمعات تعاني من آثار الهزيمة النفسية..
حاول بعض المؤرخين العرب تفسير هذه الظاهرة بوصفها تقليد الغالب للمغلوب، وقد يكون بعضها من ذلك، لكن ليس إلى درجة احتقار الذات، فطبعتها المعاصرة أقرب لكراهية الهوية والذات، وتؤدي إلى تدمير الكرامة الإنسانية بين الناس، وبالتالي فشلهم في الخروج من أزمتهم النفسية، وما يمر فيه المواطن في بعض الدول العربية دخل بامتياز في تلك الظاهرة، فأصبحت بعض من آرائهم تدعو إلى كراهية الذات في درجة غير مسبوقة..
أدرك جيداً أن ما يحصل من تسفل لحقوق المواطن في بعض الدول العربية يؤدي إلى أكثر من ذلك، فما نتوقع من أن يفجر حاكم شعبه بالبراميل المتفجرة، وماذا نتوقع أن تكون ردة الفعل الإيجابية من قتل الناس وقمعهم بشتى أنواع القمع والتعذيب، ولعل مشاهد القوافل البشرية التي تعبر البحار إلى أوروبا تفسر مدى ما يشعر به المواطن من بؤس وإذلال في وطنه..
لكن ذلك بالتأكيد يكون أكثر مرارة، وقد يأخذ بُعداً نفسياً أعمق عندما يكون رأي المثقف معاديًا للنفس لدرجة الكراهية والاستسلام، فالأمل يجب أن يبقى، والأوطان المهزومة تعود، ولو كان الهزيمة الذاتية واحتقار النفس والهوية حلاً لحالة الاحباط، لاستسلم الإنسان الياباني للهزيمة بعد الحرب العالمية عام 1945، لكنه مع ذلك عاد أكثر قوة وأكثر مناعة لحالة كراهية الذات.
لم يتخلَ الياباني عن هويته ولغته، بل جعل منهما شروطاً أساسية للشفاء، فتعامل مع مختلف العلوم الحديثة وتقنية الصناعات من خلال لغته الطبيعية، واعتمد على السواعد والعقول اليابانية في إعادة البناء بعد الخراب الكبير. ولنا أن نتساءل كيف نجحت اليابان في ذلك، بينما لا زلنا فاقدين القدرة على التفكير بعقلانية في ظل هذه الأزمة العربية الخانقة..
لا يمكن أن نخرج أيضاً من هذه الحالة النفسية من خلال فقط الطرح الثقافي، لكن الأمر يحتاج على وجه الضرورة إلى إرادة سياسية قوية في مختلف الدول العربية، وذلك لإعادة الثقة إلى المواطن، والأهم من ذلك الاعتماد عليه في إعادة البناء في سبيل اللحاق بركب الدول الآسيوية..