د. خيرية السقاف
هذه المرأة التي لم تمس جوفها أغبرة الطرقات، لم تلون بصرها أضواء المحافل، والمحطات، التي هي بريئة كالطفل للتو يلثغ الحرف، التي تفرح لشربة ماء بارد، وقطعة قماش ناعم، التي تقزقز قطع الثلج كما تهرش قطة اللحم، التي تستطعم لقمة بائتة في طبق الأمس، التي تقفز فرحة بحذاء جديد، التي لورق الكتاب رائحة تطربها، ولأبخرة القهوة زخم ينشيها، هذه المرأة التي تتحدث في الطائرة، وفي الشارع، وفي السوق، وعند الباب، وبين الصحب، ومع القريب، والطبيب كما تتحدث في بيتها لا كابح لصوتها، ولا راد لقولها، التي إن شاءت النداء أطلقت صوتها، وإن داهمها البكاء أطلقت عينيها، التي لا تعرف الغش، ولا الكذب، إن أحبت فوجدانها عامر، وإن غضبت فوجهها مكفهر، وإن رضيت اندلقت عطاء، وإن كرهت أشاحت، وإن فكرت أبانت، وإن حزنت صمتت، البريئة حد الشفاف، النقية حد العذب..
هذه المرأة بين النساء غريبة، لكنها في البيت جدة، وفي العائلة ركيزة، وفي الحياة ملاذ، وبين الناس كنز..
على يديها قام الوتد، وعلى كتفيها بُني السند، وفي محضنها لُضِمَت خيوط الحياة، ونُسج الوجدان، ورَهف الإصغاء..
قابلتها في الطائرة هذه المرأة، تحدث طاقم الضيافة كما تحدث أبناءها، تطلب من النساء أن يجلسن جوارها فهي تهاب المركبة، تسأل إحداهن مرافقتها دورة المياه تخشى الدوار، تنادي مرافقتها البعيدة عنها باسمها كما لو كانت في منزلها لا تعبأ بمن جوارها، وحلفها، وأمامها..
ثم تتلفت كما الطفل تقص حكايتها مع الصعود للجالسين جوارها وكنتُ منهم، ثم ما تلبث أن تكر مسبحتها استغفاراً، وهي توزع دعاءها، وابتساماتها نحو الجميع كما لو أنهم جميعهم أبناؤها الذين كانوا في أحشائها ثم غادروها للحياة، وتركوها للطريق وحدها..!
كان لي نصيبُ رفقتِها لساعتين ونصف حتى آخر دولاب في عجلة المقعد الذي حملها لعربتها!.
هذه المرأة هي النعمة الباقية بين النساء..