عبدالوهاب الفايز
النتائج الأخيرة في المونديال تعيدنا للحديث عن الحالة النفسية التي تؤثر في استقبال حالات الانتصار والهزيمة، ومثلها حالات النجاح والفشل، وهذه تبرز في المنافسات الرياضية، ففي مجتمعنا ثمة حالة خاصة تنبع من مفهومنا الثقافي لتقبل الهزيمة أو الانتصار.
المتابعون لحالة المنتخب السعودي منذ سنوات بعيدة يستحضرون دائماً هذه الحالة النفسية.. فالمنتخب عادة تتراجع روحه المعنوية إذا سجل الفريق الخصم هدفه الأول مبكراً، وهنا ربما تحضر حالة الخوف من مواجهة الخسارة وتبعاتها.
ربما هذا انعكاس لحالة الثقافة الجمعية التي ترفض روح الانهزام والخسارة، وهي روح تحتفي بالبطل، فالخيال الجمعي يرتاح لـ (صورة البطولة) حتى في الأمور الخارجة عن القانون، (نحن قوم لا توسط بيننا.. لنا الصدر دون العالمين أو القبر!)، وحتى في تاريخ أجدادنا القريب، ثمة قصص حقيقية عن الذين قبلوا الغربة لسنوات طويلة لكي يعوضوا خسارة تجارة.
لاعبو المنتخب هم أبناء هذه الثقافة، تربوا عليها ويجنون حصيلة التنشئة الاجتماعية، وقد رأينا جوانب من مقومات هذه التنشئة في ردود الأفعال المتسرعة التي صدرت بعد خسارة منتخبنا في مباراة الافتتاح للمونديال، فقد خرجت التصريحات الرسمية والتحليلات الفنية التي حملت الخسارة وتبعاتها على اللاعبين، ورأينا التقريع المباشر للاعبين وحدهم بدون مراعاة لمشاعرهم ومشاعر ذويهم، وكأنهم ارتكبوا جريمة مخلة بالشرف!
مع هذا الوضع: هل نحتاج الاهتمام بالتأهيل الثقافي للمجتمع لكي يطور أدبيات الانتصار والهزيمة والفرح والأسى؟ نعم، ولدينا القرآن العظيم والسيرة النبوية اللذان يضعان أسسا ثابتة للتربية الروحية في حالات الانتصار أو الانكسار.
التأهيل الثقافي يبدأ من مؤسسات التنشئة الأساسية البيت، المدرسة، المسجد، النادي، والرياضة أيضاً وسيلة مهمة للتنشئة. إنها مثالية للتربية الوطنية، فعبرها يمكن تربية الأجيال على (التفكير الإيجابي) الذي يرى أن التجربة الإنسانية هي (بناء وتكامل لتحقيق الأهداف السامية)، أي الحياة ليست صراع. الشباب والصغار يجب أن نعلمهم أن المباريات ليست منافسة رياضية بحتة، بل هي (تجربة حياة) فيها النجاح وفيها الإخفاق، فكل مباراة هي فرصة للتعلم، ولا يوجد خاسر. الأوروبيون يستثمرون الرياضة للتربية، لذا نرى المدربون يتبادلون السلام والتهاني في أول المباراة وآخرها، واللاعبون أيضاً يفعلون نفس الشيء.
مع عودة الاهتمام ببناء المهارات في تعليمنا العام، من الضروري الاهتمام بـ (التربية البدنية)، مع التركيز على تعليم التلاميذ معنى وفلسفة جماليات التنافس الرياضي وروح التعامل معه. علينا تعليمهم أن النجاح دائماً هو ثمرة تجارب من المحاولة والخطأ، فالحياة ليست مسيرة مضمونة النجاح دائماً، وإنما متعتها تأتي من القدرة على الانتصار على الذات والتعلم من الأخطاء. يجب تعليمهم أن الرياضة (رحله سعادة) وليست تعاسة، وهنا استثمارها الحقيقي، وهو ما يجب أن نبنى عليه مشروعنا الثقافي لتنشئة الأجيال.
هكذا نحول الرياضة إلى نشاط إنساني وأخلاقي وتربوي يُنتج سلوكاً حضارياً يبني الأجيال، ولا يدمر نفسياتها ويعلمها العنف والعدوانية. هذا المبدأ يتطلب مكافحة التعصب الأعمى الذي يسيطر على البعض من المؤثرين بالوسط الرياضي.
الرياضة يجب أن تكون بيد الخبراء المحترفين الذين همهم بناء منظومة تربوية، وليس مجرد صراع يتسابق إليه الهواة ومنتهزو الفرص ليكونوا هم النجوم المتاجرة بالمشاعر على حساب القيم والأخلاق والغايات الوطنية العليا السامية.
كإعلامي تربى في هذه المهنة واحترفها، يؤسفني القول إن مهنتنا ولسنوات طويلة بقيت (جزءاً من مشكلة الرياضة!)، ونخشى أن نقول إنها الآن تتحول لأن تكون صاحبة النصيب الأكبر في مشكلة الرياضة، فقد برزت حالة (تكسب مادي صريح) من الرياضة على حساب الأبعاد التربوية والأخلاقية والوطنية، فالإعلام أصبح ميداناً مفتوحاً لتمرير التعصب والتصريحات غير المسؤولة وتقاذف التهم، ولَم يعد يهتم بالمحتوى الراقي الذي يقدم آراء الخبراء والمحترفين وصناع النجاح.. الذين تحتاجهم الرياضة بعد أن توفر لها الدعم والمساندة التي كانت تتطلع إليه وتحلم به.