عبدالعزيز السماري
انتشر استخدام مفردة مهايطي في اللهجة المحكية كثيراً، لدرجة أنها أصبحت على كل لسان، ويستخدمها البعض بكثرة في وسائل الاتصال، وذلك حين يريدون وصم شخص أو كلام أو عمل ما بالفوضوية وانعدام المعنى، فُيقال شخص مهايطي، وأعترف أنني إلى زمن قريب كنت أحسبها مفردة مستحدثة في اللهجة المحلية، لكنني أدركت لاحقاً أنها مفردة عربية خالصة.
ومعناه في لسان العرب يتوافق مع الاستخدامات الحالية، ومصدرها هيط، وقيل ما زال منذ اليوم يهِيطُ هيطاً، وما زال في هَيْطٍ ومَيْطٍ وهِياط ومِياطٍ أَي في ضِجاجٍ وشَرّ وجَلَبة، وقيل: في هياطٍ ومياطٍ أي في دُنُوّ وتَباعُد، والهِياط والمهايطةُ: الصِّياح والجَلَبة.. ونقيضها ميط، وقيل ماطَ عني مَيْطاً ومَيَطاناً وأَماطَ: تَنَحَّى وبعُد وأبعد وذهب، ومنها إماطة الأذى عن الطريق.
ربما كان استدعاء الكلمة عفوياً، لكنه كان يعبر عن ذكاء اجتماعي، فالمصطلح وصف دقيق لما يحدث في وسائل الاتصال الاجتماعي، فالاجتماع الكبير والهائل على هامش الحياة الواقعية، وذلك الصخب المدوي، تنطبق عليه صفة المهايط، فالمعاني اختزلت في مفردات صغيرة، والهاشتاقات أصبحت تقوم على اهتمام الهامش في صورة أكثر من اهتمامات النخب، وفي أجواء أقرب للهرج والمرج، وربما تكون الضحية القادمة هي الأفكار الجديدة والتفكير المنهجي والتراتبي.
هذا المهايط في الشبكة الاجتماعية أفقد كثيراً من الأشياء معانيها، وسلب الجمال من مصادره، فالكتاب حتماً سيختفي بعد زمن ليس بطويل، والأفكار تحولت في الزمن المهايطي إلى حبوب سريعة الذوبان في عاصفة الإنترنت، والمواقف والمبادئ تحولت إلى ألوان متغيرة، فالمرء يمسي بلون، ويصحو بلون آخر، ولعل سبب المهايط في الألوان والأفكار هو مشاركة الجميع بمختلف فئاتهم وتعليمهم واهتماماتهم في النشر والتغريد.
لذلك لن تستغرب أخي القارئ أن بعض العوام والأطفال أصبح أكثر انتشاراً من مفكرين لامعين أو فلاسفة مؤثرين أو علماء نابغين، ولهذا تجد بعض المفكرين والمثقفين دخلوا المعترك مبكراً، ومع ذلك فشل كثير منهم في منافسة الرموز الشعبوية، والذي يجد قبولاً أكثر لأفكاره السهلة، وقد حصل شيء من ذلك في الموسيقى، فقد كانت النخب الموسيقية تسيطر على الأجواء، ولم يكن الإعلام يعطي حيزاً لما يُطلق عليه بالفن الشعبي أو السوقي، والذي يعتبر وسيلة للتعبير عن البسطاء.
لكن بعد الثورة الإعلامية في القنوات الفضائية، هيمن الفن الشعبي على الأجواء وتقدم الفنانون الشعبيون على عباقرة التأليف الموسيقي في الفن العربي، وأدى ذلك إلى تدهور الذوق العام، وقبول خروج النغمة كمفردة غير مترابطة عن سياقها، تماماً مثل التغريد المتواصل، والذي قد يفتقد كثيراًَ للسياق والترابط الفكري في وسائل الاتصال الاجتماعي.
لا يمكن التنبوء بما سيحدث في المستقبل، وما يحدث بعد ثورة المهايط الاجتماعي، وما هي تبعاتها في المستقبل، وهل سيخرج منها أطوار جديدة أكثر إتساقاً وتناغماً، أم ذلك سيكون مقدمة لانفجار الوعي الإنساني في وجوه النخب، والتي كانت دوماً ما تسيطر على المعاني والتفسيرات النخبوية للكلمات والنصوص.
ختاماً لن يكون من السهل لجم التطور التقني في هذا المجال، فالمتغيرات والتطورات المتسارعة تحدث يومياً، ومهما حاولت السلطات السيطرة على النشاط الفكري فيها، لن تتمكن في ظل انتشارها الواسع، وازدياد المشاركين فيها، وهو ما يجعل للمجتمع الواقعي وجه افتراضي في الشبكة العنكبوتية، لكن الخطورة أن تتقارب المسافات بينهما، وأن تتداخل أجواؤهم وتقترب من الواقع.