د. حمزة السالم
قد واجهت كثيراً من فضلاء الفقهاء يتساءلون عن الملح وكونه مذكورا في الحديث، من الأصناف الربوية الستة، فلا يرون سبب دخوله معهم.
وأقول: والملح كذلك، يحمل مواصفات الأصناف الستة بل لعل أوصاف الأثمان والأقوات، أكثر تعمقا في الملح.
فمما قرأت في المراجع والبحوث، أن كان الملح نادراً وعزيزاً واستخدم ثمناً وعملة، حتى اشتقت كلمة مرتب العامل بالإنجليزية منه، فأصل كلمة salary أي مرتب من salt أي الملح. وكان يستخدم الملح لتسديد القيم وتصفية الحقوق.
وقد قامت الحروب والفتن من أجله. فالضرائب التي وضعها النظام الفرنسي القديم على الملح كانت سبباً في الاضطرابات. فمن كتاب «الملح في العالم»: «وقامت المراكز الحضارية في القارة الأميركية تبعا لإنتاج الملح ووفرته، فكانت على سبيل المثال مدينتا كوزكو وبوغوتا، في كولومبيا، وتواصلت أهمية الملح وحروبه بعد وصول الأوروبيين الذين أطلقوا حملات واسعة لاستكشاف مصادره ومظان إنتاجه». وفي الكتاب «كانت مشكلة المستوطنين للقارة الجديدة الذين طوروا تجارة وحياة اقتصادية مستقلة هي حاجتهم للملح المستورد من بريطانيا أو مستعمراتها». وفيه «انتهت الثورة الأميركية بالاستقلال، وولدت أمة جديدة مع ذاكرة مُرة عما يعنيه الاعتماد على الآخرين للحصول على الملح».
وقد جاء ذكر الملح بالتقديس كثيراً في التوراة والإنجيل ومن ذلك وصف المؤمنين بأنهم ملح الأرض. ومحمد عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين ورسالته عالمية ليست مقتصرة على جزيرة العرب ولا قرنهم الذي عاشوه.
فذكر الملح من الإعجاز الفقهي لا من الإشكاليات التي تخليها البعض. وذكر الملح فيه إشارة للقياس، فقد تأتي أصناف قوت هي أقرب شبها للملح من شبهها للبر والشعير. والملح أبو الأقوات. فهو وإن لم يكن قوتا في ذاته لكنه يجعل من الأطعمة الأخرى قوتاً، كالقديد ونحوه. ويستخدم كطعام أيضاً، كما استخدم كثيراً لحفظ الأطعمة.
ومما قرأت في التايمز «إذا كان من الممكن قياس أهمية الغذاء لمجتمع ما عن طريق التلميحات إليه في اللغة والأدب، فإن أهمية الملح لا تضاهى. وقد تناول الملح ما يقرب من أربع صفحات من قاموس أكسفورد الإنجليزي، أكثر من أي طعام آخر.
ومما قرأت لكهنة النصارى، يقول اللاويين 2:13: «مع كل عروضك تقدم الملح». «فبسبب استخدامه كمواد حافظة، أصبح الملح رمزا للديمومة لليهود في العهد القديم. وجاء استخدامه في التضحيات العبرية كمنقي اللحوم، ليعبر عن العهد الأبدي بين الله وإسرائيل».
وفي تكوين 19: 1-29، «أمر ملائكتان من الرب لوط وزوجته وابنتاه بالفرار من مدينة سدوم الآثمة دون النظر إلى الوراء. عندما ألقت زوجة لوط نظرة خاطفة إلى الوراء (كان إيمانها غير مؤكد)، تحولت على الفور إلى عمود من الملح».
«وتوضع حبيبات الملح على شفاه فاتنة تبلغ من العمر ثمانية أيام، في الطقوس الدينية الرومانية، التي تسبق حفل التعميد الكاثوليكي الروماني، الذي يوضع فيه لقمة ملح في فم الطفل لضمان تنقيحه المجازي».
وخلال العصور الوسطى، انزلقت قدسية الملح القديمة نحو الخرافات. فكان سكب الملح يعتبر أمراً ينذر بالسوء، ويعتبر نذيرا من العذاب. (وفي لوحة ليوناردو دا فينشي، لوحة العشاء الأخير، يظهر يهوذا المتجهم مع ملح مقلوب أمامه).
وأقول: آمنا به كل من عند ربنا، فقد قال نبينا عليه السلام «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد».