حين تنزلق الكلمات من عضلة اللسان بخفة وطيش، فإن ذلك ينشئ لدى المتكلم انطباعاً وفهماً أولياً بزهادة قيمة تلك الكمات وبضعف تأثيرها.
نطق الطفل بكلماته الأولى يشير الى أعظم النعم التي امتن الله بها على هذا الكائن الضعيف، وهي صحة قواه العقلية، يزداد الإيمان بسلامته مع قدراته المتزايدة على تركيب الجمل الطويلة، والتعبير السليم عن احتياجاته.
لا تنته مهمة المربين عند نجاح الطفل في اجتياز مرحلة تعلم النطق. فهناك مسؤولية أخرى بانتظارهم، وهي الانتباه الى الكلمات - ولاسيما التوصيفية التي تطلق للحكم والانتقاد والتعبير عن المشاعر...- إذ تتسلل تلك الكلمات الى عقل الطفل، لا لتساهم في تشكيل قاموس مفرداته الشخصي فحسب، بل وتشكيل مفاهيمه وتصوراته الذهنية حول نفسه وكل من هم حوله، وكذلك رسم حدود لقدرات وإمكانات خارطته الحياتية.
لا يتوقف تأثير الكلمات السلبية على إدانة الطفل والكشف عن مستوى الوعي لمحضنه التربوي فحسب، فالطفل أول من يكتوي بنارها، إذ من يساهم في توجيه اختياراته لباقي حياته هي تلكم مجموع المفردات.
حين تسمع أثناء عبورك طفلا يصرخ في وجه آخر يا غبي... فهذا يعني أن هذه التهمة قد وجهت له مراراً كثيرة... وهو بدوره يحاكم بها غيره...
حين يشكو أحد الوالدين من خصلة ذميمة لدى ابنهما كالعناد مثلا، فهذا ينبئ بأن تلك الخصلة تزداد غوراً مع كل كلمة إدانة يسمعها الابن.
كم مرة بقيت عالقاً: بين شعورين مزدوجين من الابتهاج والمرارة معاً من جراء حكم أطلقه عليك أحدهم، امتدحك فيه ابتداء ثم تبعه مباشرة بالتنقص منك حين استدرك فقال: ولكن!.
وحين يسوق فضل الله لك من يعادل التوازن النفسي في داخلك، فيمتدحك أحدهم بما فيك، ثم تنفي عنك ثناءه، وتقلل من قدرك متظاهراً بالتواضع! طارداً عنك جميل المناقب!
ومما يوسع دائرة تأثير الكلمة السلبية، أن تكون هي الموجه في ثرثرة التجمعات فحين تغلب حالة شعورية من الامتعاض والتشاؤم في مجلس ما، تجاه ظاهرة كالغلاء المعيشي والغش التجاري، أوحالة الطقس أوحتى حالات الفقر والتشرد والصراعات والحروب في دولة أخرى...و يعبرعنها بلغة التذمر وروح الشكوى ومفردات الاستياء، فإن هذا مؤشر على تضاعف حجم الحالة وتفاقمها.
ولا تظن أن الكلمة السلبية تفقد سيطرتها إذ لم يعبر عنها ودفنها في نفسه، فتأثير حديث النفس المتمثل في الأفكار، لا يقل عن الحديث المعلن ولاسيما إذا تكرر استدعاؤه وعلا ضجيجه.
فحين تقف المراهقة أمام المرآة وتهمس في نفسها: كم أنا قبيحة، البثور غطت وجهي، لدي شعر زائد... فإنها تعلن لنفسها في كل مرة بأنها لا تستحق أن تحظى بالجمال، وأنها ليست جديرة بالاهتمام. وهي بهذا قد اختارت لنفسها في مستقبلها طريق التعاسة وضعف التقدير.
وتلك الزوجة النكدة حين تكرر في حديثها مع نفسها: زوجي لا يحترمني، زوجي يخونني،... هي بذلك قد اختارت لنفسها بأن تتفاعل مع تجارب زوجية تدلل على صحة أفكارها السلبية، وأحاديثها الداخلية.
الموظف الذي في كل مرة يستقيظ، مع أول حديث هامس يطرأ على باله، هو ما أتعسني في هذا العمل المجهد والمدير المستبد، هو بذلك قد اختار التعاسة والكلفة في عمله، واحتمال الظلم من مديره، وفوق ذلك فاحتمال فقده لوظيفته وشيك.
والإفراط في نقد الذات في أحاديث النفس، واتهامها بالبلادة أو الضعف أو التقصير... لا يزيدها إلا محدودية وعجزا وتقصيرا.
وقس على ذلك من يحدث نفسه بأنه قد اكتفى من العلوم، ونال من الفنون ما يفوق به أقرانه، فإن ذلك من شأنه أن يحد من انتفاعه من توسع العلوم، وتطور الفنون.
لم أورد ما يستدل به من إحصاءات رقمية ودراسات علمية، ولكن حسبي ما صح عن الصادق المصدوق حين زار مريضاً فأراد أن يطيب خاطره بكلمات تبعث التفاؤل في نفسه فقال: لا بأس طهور إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: ذَاكَ طَهُورٌ، كَلا بَلْ هِيَ حُمَّى تَفُورُ أَوْ تَثُورُ عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ، تُزِيرُهُ الْقُبُورَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَنَعَمْ إِذًا».