أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال الله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [سورة فاطر/ 32].
قال أبو عبدالرحمن: مفتاح العلم بأن الظالم نفسه في هذا السياق نفسه ناج غير هالك: أن تعلم أن الآية ليست خبرا عن عموم العباد؛ بل هي خبر عن خصوصهم؛ وهم المصطفون من العباد؛ فضمير الجماعة في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ}: عائد للمصطفين دون عموم العباد.. هذا هو ظاهر أسلوب لغة العرب التي جاء بها التنزيل؛ ومن ادعى خلاف ذلك فعليه الدليل على أن الظاهر غير مراد؛ وعليه الدليل ثانية أن معنى ما آخر هو المراد؛ وإذ تعين هذا ظاهرا فالظالم نفسه ها هنا من المصطفين الذين أخبر الله عنهم أنهم يدخلون الجنة، ويقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن.. يدخلونها بدأ مزحزحين عن النار.. وما أكثر الظالمي أنفسهم من أهل القبلة؛ وهم الذين يقصرون عن درجات المقربين؛ ولكنهم مرحومون بالجنة، وذهاب الحزن.. وكم من رجل لا يؤبه له في الدنيا يكون سيدا وجيها في الآخرة، وكم من وجيه في الدنيا نفاش؛ وهو في الآخرة لا يزن عند الله جناح بعوضة، وكم من حاطب على نفسه في الدنيا تحسبه هالكا في الآخرة؛ فإذا به من أهل الفوز؛ لأنه يغص بسيئاته، ويكاثر السيئات بالحسنات؛ فتكتب له ملائكة الرحمن عليهم سلام الله وبركاته بإذن ربهم سبحانه وتعالى جبالا من الحسنات من جراء وقيعة الناس فيه؛ واستباحتهم عرضه، وظلمهم إياه.
قال أبو عبدالرحمن: ومن علامات نجاح الظالم نفسه: أن يؤلمه دائما كل ما وقع له من شهوة، وتباغته في بعض الخلوات خشية ربه، أو الشوق إلى لقائه؛ وإلى ما عنده؛ ويجد في العبادة لذة ولو قصرت، ويلحظ ألطاف الله عليه في بعض مخانقه؛ فيحس بحبه ربه؛ وأما الغارق في الغفلة فيحسب أن محبة الرب عدم محض، والجاني يحسب أن محبة الرب مجرد ابتداع.. إلا أن المسدي النعم سبحانه وتعالى: يكتب السيئة واحدة، ويضاعف الحسنة إلى حسنتين.. إلى ثلاث.. إلى عشر.. إلى ما لا يحصيه إلا هو سبحانه؛ وإن هم بفعل السيئة؛ فقدر عليها؛ ولكنه تركها من أجل ربه: كتبها الله له حسنة؛ ولا يهلك على الله إلا هالك؛ أي من أبى؛ وما أعظم وأوسع كرم ربنا في قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [سورة الزمر/ 53]؛ ولا تنسوا حديث (البطاقة)؛ ولهذا فمن علامات نجاح الظالم نفسه: أن تمر به لحظات لا يبالي بالموت وإن كان الولد مجبنة منجلة؛ لأنه على شيء من الاستقامة، وحسن الظن بربه؛ وذلك إذا ضعفت قواه، وأيس من نفسه، وتمر به لحظات يوجل ويخاف خوفا شديدا من الموت؛ لأنه ألمت به وعكة؛ ولكن مرضه ليس مرض اليائس من نفسه؛ لأنه على شيء من المعصية لا يخاف من الموت حبا للدنيا، ولكن خوفا من رب الدنيا والآخرة مالك يوم الدين سبحانه وتعالى.. ومذهب جماهير العلماء أن الأصناف في الآية الكريمة كلهم أهل الجنة؛ وإنما روي عن الحسن البصري رحمه الله تعالى: أن السابق من رجحت حسناته، وأن المقتصد من استوت حسناته وسيئاته، وأن الظالم نفسه من خفت موازينه.. انظر كتاب (طريق الهجرتين) ص237 - 238 لابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى.
قال أبو عبدالرحمن: السابق والمقتصد كلاهما ذو حسنات راجحة، وإنما الآخر مقتصد في الرجحان؛ وأما الظالم نفسه: فليس هو من خفت موازينه؛ فذلك هالك؛ بل هو ذو بر وحسنات؛ ولكنه أسرف على نفسه بالمعاصي حتى ساوت حسناته، وربما كانت أكثر في أول الأمر لا عند وفاته؛ ولكنها تلاشت بشيء محي عنه في الدنيا، وبحسنات له ضاعفها الله، وبأجور من العمل الجاري كولد يدعو له، وبحسنات قدمت له من مجترىء عليه بظلم وغيبة؛ أو متأل على الله أنه سبحانه وتعالى لن يغفر له.. وإلى لقاء في السبت القادم إن شاء الله تعالى, والله المستعان.