ما يسمى «التطور التلقائي» أي بدون تدخل «الإنسان»، سقط إبان احتدام الصراع بين الشغيلة وأصحاب رؤوس الأموال والذي انتهى بعد كمونة باريس في منتصف القرن التاسع عشر، حيث تركزت كل السلطات بيد الرأسماليين. وقد أثبتت كمونة باريس -بما لا يدع مجالاً للشك- أن «التطور التلقائي» يؤدي إلى سقوط النظام الرأسمالي «تلقائياً».
إذن أصبح أمام الرأسمال ضرورة لا يمكن تجاوزها، ألا وهي تدخل «الإنسان» في التطور كي يصبح مسيراً وليس مخيراً.. ولكن كيف؟.. فالتدخل «الحر» الذي نادى به مؤسسو الفكر الرأسمالي «الثوري»، يتطلب إشراك مؤسسات المجتمع المدني، وخاصة «النقابات» في السلطة السياسية. أي تطبيق «الديمقراطية الحقيقية» التي ستؤدي أيضاً إلى سقوط النظام الرأسمالي لو تحققت!. إذن من أجل استمرار النظام الرأسمالي في الوجود لا بد من «تدخل غير تلقائي»، يتيح للرأسمالي التحكم بالسوق والسلطة بكل أنواعها، ثم إقصاء مؤسسات المجتمع المدني عنها. أي إلغاء الأسس التي نشأ عليها النظام الرأسمالي، والتي جعلت المجتمع كله يهب للإطاحة بنظام القياصرة وفتح الآفاق أمام «التطور الرأسمالي التلقائي» الواعد.
أعاد الرأسمال إنتاج نفسه بعد أزمة القرن التاسع عشر، حيث إنه لم يكتف بالتوقف عن إسقاط الأنظمة ما قبل الرأسمالية فقط، بل كرسها في الدول التي لم تتحرر بعد. أما في الدول التي تحررت من القيصرية فقد «حوّر» الأسس التي تؤدي إلى سقوطه وهي كالتالي:
أولاً- إقصاء مؤسسات المجتمع المدني عن المشاركة بالسلطة وتحويلها إلى منظمات غير فاعلة أو مجرد أبواق للرأسمال من أجل إيهام الرأي العام «بالديمقراطية المزيفة».
ثانياً- إعادة ربط السلطات بعضها ببعض ونفخ الروح بالسلطة الدينية من جديد ثم ربط الجميع «بالتفرد» الرأسمالي بالسلطة، أي إلغاء العلمانية.
ثالثاً- تحويل القوات المسلحة من مدافعة عن أوطانها إلى غازية للبلدان الأخرى، الأمر الذي هيأ الأرضية للحرب العالمية الأولى وتقسيم العالم.
رابعاً- استحداث مافيا إعلامية أو ما يسمى «السلطة الرابعة» لشيطنة التيارات اليسارية الأوروبية، وشيطنة روسيا التي نجحت بها تلك التيارات في تحقيق الثورة، ثم محاصرتها.
خامساً- نشوء الاستعمار أدى إلى تصدير الأزمة الرأسمالية إلى خارج الدول الصناعية، وانبثق صراع بين شعوب تحت الهيمنة وأخرى مهيمنة ومستفيدة من النهب الاستعماري.
كل تلك التغيرات الجوهرية في النظام الرأسمالي لم تتمكن من حمايته من الأزمات المتكررة، ولذلك عندما دخل الرأسمال في أزمة العشرينات - الثلاثينات من القرن الماضي، كرس كل جهوده للخروج منها وإعادة إنتاج سلطته «المتفردة»، ليس على أساس تسيير الاقتصاد بشراكة مع مؤسسات المجتمع المدني، إنما «بالتدخل المتفرد الناقص» طبقاً للنظرية الكنزية التي سنتحدث عنها لاحقاً.
** **
- عادل العلي