حمّاد السالمي
* عمَّ الوسط الثقافي ارتياح كبير بعد أن أصبح لهم ولثقافتهم وزارة تُعنى بهم وترعى وتوجه نشاطهم. الثقافة كنتاج فكري مجتمعي؛ كانت في الماضي موزعة ومتنقلة بين أكثر من جهة، والمثقفون كانوا يرون أنهم: (أيتام على موائد الكرام)..! في مجتمع عريق وزاخر بكل الإمكانات الداعمة للعطاء والإنتاج في هذا الميدان الحيوي.
* حمل راية النشاط الثقافي في عموم المملكة منذ عقود عدة أفراد من الرواد الذين بحثوا ونقبوا وكتبوا وألفوا ونشروا، ثم ظهرت على أيديهم الصحف من منطلقات أدبية - وهم كثرة كاثرة أعجز عن حصرهم في مقال - إلى أن تحولت صحف الأفراد إلى مؤسسات، ثم انتقل المثقفون برايتهم الثقافية إلى رعاية الشباب برئاسة (الأمير فيصل بن فهد) -رحمه الله، ثم ترقوا برايتهم الثقافية إلى حصن وحضن (وزارة الثقافة والإعلام)، ليستقلوا من بعد بوزارة تحمل اسم: (وزارة الثقافة). شكرًا خادم الحرمين الشريفين. شكرًا سمو ولي العهد. لقد شعر المثقفون أن لهم بيتًا يأوون إليه.
* هناك فهم قاصر شائع يختزل مفهوم الثقافة في النتاج الأدبي من شعر وقصة ورواية ومسرح ونحو ذلك، وبالتالي فإن المثقف هو من يكتب وينتج في هذا الإطار الضيق. لقد جاء الوقت الذي نعطي مفهوم الثقافة حقه من التأطير اللغوي والعلمي والاجتماعي والفلسفي، ذلك أن الثقافة - كما يرى حنا عيسى في كتابه: الثقافة عقائد وقيم - هي: (سلوك اجتماعي ومعيار موجود في المجتمعات البشرية. وترتكز على مفهوم مركزي في الأنثروبولوجيا، يشمل نطاق الظواهر التي تنتقل من خلال التعلم الاجتماعي في المجتمعات البشرية). إن بعض جوانب السلوك الإنساني، والممارسات الاجتماعية؛ مثل الثقافة، والأشكال التعبيرية مثل الفن، الموسيقى، الرقص، الطقوس، والتقنيات مثل استخدام الأدوات، الطبخ، المأوى، والملابس هي بمنزلة كليات ثقافية توجد في جميع المجتمعات البشرية.
* ومع أن المفهوم العام للثقافة يبدو ملتبسًا في بعض تعريفاته وتفسيراته وخصائصه، إلا أن الحركية الاجتماعية التي تشهدها بلادنا اليوم، تتطلب العمل على التنمية الثقافية بروح عصرية، ورعاية المبادرات الفردية والمؤسساتية، والدفع بكل ذلك نحو خلق بيئة ثقافية منفتحة محليًا وإقليميًا ودوليًا. إن المرتكزات الدينية والاجتماعية والتاريخية المتحررة من قيود الماضوية؛ يمكن أن تستوعب كل الأفكار الحداثية الخلاقة، التي نقلت أوروبا من عصور الجهالات إلى عصر التنوير. أفكار تنويرية تقبل التأثر إيجابًا، وتملك القدرة على التأثير بالمقابل. نحن مثل بقية شعوب الأرض، لدينا ثقافة عامة، من آداب وفنون وعلوم وموروثات جيدة. ولدينا ثقافة وطنيَّة؛ تعكس حضارة الوطن التي تتميز عن غيرها فنيًا وأدبيًّا وعلميًا.
* يتفق عدد من الباحثين في علم الاجتماع و(الأنثربوليجي)؛ أن للثقافة فوائد عدة في المجتمع. أضيف هنا: (هذا إذا توجهنا بنظرنا إلى الأمام، وأحسنا توظيف الثقافة تنمويًا). هؤلاء يرون أنها: تُكسِب أفراد المُجتمع الواحد شعورًا بالوحدة الوطنية، وتُنمِّي لديهم الشُّعور بالانتماء والوَلاء، وتُتيح لهم العمَل دون اضطراب، وتمُدّ أفراد المُجتمع بالأنماط السُّلوكية التي تُشبع حاجاتهم البيولوجيّة، من مأكل ومشرب وملبس، لِتضمن لهم الاستِمرار والبقاء. كما تَمُدُّهم بالقَوانين والأنظِمة اللازمة لِلتَّعامل مع مواقف الحياة المُختلفة دون اضطِراب، وتَجعل الفرد يقدِّر الدَّور التربوي للثَّقافة.
* هناك مهام جسام في مقبل الأيام؛ تنتظر وزارة الثقافة، مما يتخطى المحلي إلى الإقليمي والدولي. أشير في هذا الخصوص إلى ما هو مسكوت عنه في الدور الثقافي المناط بالملحقيات الثقافية الموزعة في دول العالم، والذي يرى البعض أنه تم اختطافه تحت مظلة التعليم، فتركت الملحقيات دورها الأساس (الثقافي، الذي هو أوسع وأعم وأهم من التعليم، لذا أرى أن يتم تصحيح هذا الوضع القائم بإعادة هيكلة الملحقيات الثقافية، لتنهض بدورها الثقافي أولاً، وتكون المهمة التعليمية تحت مظلتها لا فوقها، فالتركيز على الجانب التعليمي في الملحقيات طغى على الدور الثقافي، وولّد فيها وظائف للمنافع لا أكثر، حتى رأينا على هرمياتها من ينطبق عليهم قول: (موظفون لا مثقفون). ذلك أن التمثيل الثقافي لا يقل أهمية عن التمثيل السياسي، وتجارب الدول تعكس عنايتها بثقافة بلدانها وتسويقها، ولهذا فإن عملها من هذه الملحقيات، هو تغليب الثقافة على ما سواها من مهام.
* أعتقد أن أمام وزارة الثقافة ووزيرها الشاب الأمير: (بدر بن عبدالله بن فرحان آل سعود)؛ فرصة ذهبية لخلق كيان ثقافي متميز في عموم المملكة، بحيث تنشأ مراكز ثقافية في المحافظات والمدن، تشمل الأندية الأدبية، وجمعيات الثقافة والفنون، والمكتبات العامة، وأن تصبح الوزارة هي المرجع الوحيد لفروعها، وأن ينظر بشكل جدي لدعم وتشجيع الصالونات والمنتديات الثقافية والأدبية الخاصة، وهي بالمئات في عموم المدن، ويجري رسم خطة عمل إستراتيجية لثقافة المستقبل، تتماهى مع (رؤية السعودية 2030). وتضع في الاعتبار؛ أفول عهد الكتاب الورقي، والصحيفة الورقية، والبحث في وسائل جديدة؛ تستوعب الكم الهائل من الموروثات الشعبية، وتستثمر التنوع الكبير في هذا الموروث الشعبي الفني والحرفي وخلافه، ليعبر بصدق؛ عن ثقافة سعودية كانت ذات يوم باسمة، ثم عابسة، ثم باسمة؛ ولكن بعد أربعة عقود صعبة للغاية.