د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
افتُتحتْ مساء الأربعاء الماضي الدورة الثانية عشرة لسوق عكاظ برعاية كريمة من خادم الحرمين الشريفين، وذلك في محافظة الطائف في الحدود الجغرافية لموقع سوق عكاظ القديمة، فجاءت عكاظ اليوم تحمل حواس العرب الأسطورية وتستجلب من قيمهم النبيلة وافرا نحتاجه لرفد واقعنا الحضاري.
وعند بوابات عكاظ علمنا أن هناك عملية جادة لبديل عصري في تلك المفازة, وأدركنا ذلك ونحن نترنم في الجادة القديمة المضاءة بمصابيح العصر الحديث ونسمع قعقعة دروعهم ونتخيلهم يعانقون رواحلهم مع غبش الصباح تارة ومع سطوع الشمس حين تسلمهم قيادها تارة أخرى.
فعكاظ اليوم من الخواتيم الآسرة لانبعاث الضوء من صحراء مكتظة بمجتمعات الجاهلية القديمة.
وجاءت سوق عكاظ وكان التراث غاطساً في حنادسه يُضاء وفق أمانة الرواة؛ فأصبحت -عكاظ اليوم المكان والتضاريس- ذاكرة جديدة، تستجلب الموروث الأصيل، وتلبسهُ حلة عصرية.. فتوشّحت عكاظ علامة فارقة في الثقافة الحاضرة، وأصبحت تظاهرة ثقافية ناصعة كما كانت في ماضيها أصلاً بارزاً في تاريخ العرب.. فكما كتبُ تاريخ عكاظ الجاهلية وتاريخها بعد الإسلام فإن التاريخ سوف يسرد فرائد عكاظ السعودية، وأحسبها غزاراً -بإذن الله-.
عكاظ في الجاهلية مبعث منافرة، وزناد حرب تحفّزها عادات الجاهلية، وعلى أرضها تختضب أفكار العرب وآدابهم؛ يتصدّرها كيان الضاد تتنازع القبائل ارتداءه والنبوغ فيه.. كما كانت عكاظ معرضاً للتجارة، ومؤتمراً للسياسة والرأي والاجتماع، واحتكمت القبائل على أرض عكاظ في الحرب والسلم كهيئة الأمم اليوم (دون حق النقض ودون مبعوث أممي!)، فقوة المكان آنذاك ارتباط مشروط لتعظيم المواثيق؛ فذاك من مروءات العرب الخالدة؛ فاحترام العهود، والتحرز من الخيانة الخفية؛ فالعربي يواجه أشد خصومه ضراوة وجهاً لوجه وفي ذات الوقت يحمي ظهر خصمه من الخلف إن غُوفل.
وهناك في عكاظ الماضي كانت تنصب المنابر لحكماء العرب، ومن بينهم حكيم العرب قس بن ساعدة؛ وكانت تضرب قبة من «أدم» «لبرفسور النقد القديم (نابغة بني ذبيان) فينتظم حوله الشعراء ليحتكموا.. وهناك تلتقي اللهجات العربية وتقوم سوق الشعر، ولم تكن العرب تحرص على شيء أكثر مما يحرصون على البيان.
وفي العصر الحديث قبل إحياء السوق كان اسم «عكاظ» يمر عابراً بوصفه تسجيلاً مقيداً عما اندثر وبقيت بعض أخباره دون استيعاب لذات عكاظ الحضارية أو بوصفها نموذج حضارةٍ ثقافيةٍ تكشف عن جهود البشرية في حقبة من أحقابها، فجاءت «عكاظ» اليوم تتجذر في التاريخ، وتعانق الحاضر وتنفتح على المستقبل، حيث التركيز على القيم المضافة في ريادة الأعمال وتشجيع الشباب للاستفادة من فرص بلادنا الملأى بالكنوز، كما تحظى سوق عكاظ اليوم بقوة كبيرة في تشكيل وجودها، ورسم ملامحها، التي تمكنها من الاستمرار والمنافسة، ودعم تطوير ثقافة الأجيال، ويتمثل ذلك في انتشارها كجدول يصنع جسور التعايش حتى تبرعمت جوائزها للعديد من المبدعين العرب، كما استضافت عكاظ ضيوفاً من خارج البلاد، وجلبت بذاك دوائر النقل الثقافي ممثِلة لثقافاتها في مجالات السوق ونشاطاته، ولتشكيل ثقافة سياحية عظيمة.
وقد لبت عكاظ اليوم حاجة الشيوخ والشباب في جوانب المعرفة، ولامست طموحاتهم الثقافية وإن تباينت مواقعهم، فاجتمع على أرض عكاظ المثقفون وسواهم، واجتمعت لهم عكاظ وسكنتهم وسكنوها، ومازالت عكاظنا السعودية الدولية في بداياتها.. ولذا فإننا ما فتئنا نعالج أقفالها، ونبحثُ عن أمجاد نقطفها من قديم عكاظ، فلابد من الإمتاح من اقتصاد عكاظ وثقافتها وآدابها والسياسات والعهود والمواثيق وتفاصيلها كلهاومن ثم بناء إستراتيجيات ممنهجة، كلٌّ على حدة، وتشكيل فرق من ذوي الاختصاص لبناء برامج عمل عميقة تؤطر للاستفادة الأعمق من الحضارات العكاظية، وتشرع نوافذ التلقي المؤثر لإنسان الحاضر والمستقبل، فالنتائج الملهمة تتأتى من القدرة على إتمام عمليات تلقي القيم والمآثر التي اتصف بها مرتادو سوق عكاظ القديمة؛ وألا يكون احتفالنا بعكاظ سنوياً شريطاً لذكريات عابرة.
ومن الأقفال التي يجب حلحلتها تحقيق عالمية عكاظ بصورة تحقق المثاقفة الحقيقية التي كانت من متكآت سوق عكاظ قديماً.. ولابد لنا من وقفة حيال نصيب أجيال المتعلمين السعوديين في المدارس من غنائم عكاظ؛ فما أحوجهم للاعتداد بتراثهم ليكون سلماً للمعالي في حاضرهم ومستقبلهم.. فلعل وزارة التعليم تستقبل عكاظ عبر وسائل التواصل المناسبة ليحاكيها الطلاب في برامج النشاط ويتمثلونها في واقع ثقافتهم.