(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ)، (65) الحجر.
كثيراً ما استوقفني الأمر الإلهي في الآية بالمضي قدماً وعلى نحو جاد مع عدم الالتفات باتجاه الخلف.. ولأن كلمات الله تحمل في طياتها معاني عميقة، ومغازي ثرية، فإنه يقطن وراء النهي عن الالتفات صوب الخلف أخطار مخالفته التي تحول دون المضي باتجاه الأمام.
مَن منا لم يمر بتجارب موجعة، تتمثل في فقد أو خسارة أو مرض... عاركنا أحداثها، وقاسينا شخوصها، وقاومنا تيارها، وقد لا يقتصر الأمر على مأساة كبيرة تحدث، فهناك خيبات متكررة، واحباطات متعاقبة، من جراء أمانٍ لم تتحقق، وتجارب جميلة لم تكتمل، ومشاريع حياة لم تنجز.. وبعد مضي فترة من الزمن قد تطول وتمتد لآخر العمر، نكتشف أن تلكم التجارب الأليمة، وحتى تلك الاحباطات الصغيرة المتلاحقة، لا زالت بذورها قابعة في إحدى جنبات النفس، تقتات من عواطفنا وتتغذى على أفكارنا وتتضخم على حساب طاقاتنا.. كانت تظهر بأشكال عدة تارة على هيئة سورات غضب غير مبررة ، أو حالات اكتئاب تتراوح بين التوسط والشدة، أو تتجسد بصورة مرض عضوي يعطل أحد أعضائك ولو بعد حين.
كنا نظن أن التجربة المريرة قد ولت بفوات زمانها، وتقادم عهدها، ولكن نكتشف بعد مضي زمن أننا لا زلنا عالقين في جرف هاو. وكافة الممارسات التي قمنا بها لتجاوز الأزمة كالتشاغل عنها، أو السفر ومفارقة مكانها أو حتى البكاء وتناول المهدئات كانت كلها مجرد ضمادات أغلقت الجرح ولكن لم تطهره ولم تلئمه.
ما الذي كان من واجبنا فعله ولم نقم به؟! ما الخطأ الذي مارسناه ؟
هناك ممارسة تسبق التجربة، وترافقها وأخرى تتبعها.. تغيير مفهوم نظرتنا للأحداث المأساوية، والتجارب المحبطة، يلمع العدسة الداخلية لترى الأمور بصورتها الحقيقية، بعيداً عن تهويل المشاعر ومبالغات أحاديث النفس، ويبقى الحدث هو هو.
إن تعرضت للصدمة وخضت التجربة فلا يكن اتكالك على الضمادات المعالجة للسطح وحدها ، إذ لا يوجد ما هو خير من الغوص في الأعماق للفهم والتطهر معاً. إن التسليم الكامل والتفويض التام لله تعالى؛ مدبر هذا الكون وسيده ليس عجزاً واضطراراً بقدر ما هو ثقة وتسليماً. وفي هذه المرحلة الدقيقة والحساسة، تتجلى لك كل الأشياء على حقيقتها. ستشعر بضعفك أمام قوة الله وبذُلك بجانب عزة الله، وستتخلى عن الاتكال على قوتك وتتبرأ من ذكائك وحنكتك، وستكف عن الاعتراض والاستياء والمقاومة ، وستتحلى بالتواضع وبالحكمة، وسيغمرك شعور رائق بالسلام مع الإخبات، والامتنان الحقيقي المصحوب بالرضا الدائم، (حَتَّى إذا استيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ) 110 يوسف.
في هذه اللحظة تحديداً أنت على أهبة الاستعداد لاستقبال الفتوحات الربانية، وتنزّل اللطائف الإلهية، المتمثلة في إدراك المغزى الحقيقي وراء التجارب المأساوية، واكتشاف القوة الجوهرية في داخل النفس البشرية، والتي في الحقيقة لا تستمدها إلا بالاتصال الحقيقي بمن أودعها بداخل النفس. والأهم انها ستكون فرصة ثمينة للاقتراب من الله، ومعرفة عظمة قدْره، واكتشاف سر قدره، ولن تتردد بعدها في المضي قدماً، غير آبه بما يتربص بك من أخطار أمامك ، غير ملتفت لآثار الدمار خلفك. وستدرك معي المغزى من قوله تعالى: (وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أحدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ).