د.عبد الرحمن الحبيب
قبل شهرين، حذر الرئيس الإيراني روحاني أمريكا «أنها ستندم» إذا انسحبت من الاتفاق النووي، وعندما انسحبت ظهر هلع في إيران وصل الأسبوع الماضي لاحتجاجات البازار التي جعلت بعض أقطاب النظام الإيراني يطالب بإقالة روحاني، فقال الأخير: إنه يجب على الإيرانيين أن «يجعلوا أمريكا تركع»؛ لكنه قبل أيام عزى أزمات بلاده لضغوط من أمريكا التي قال إنها ستندم!
في تلك الأثناء أعلن المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، أن بلاده تقدمت بشكوى رسمية ضد واشنطن لدى محكمة العدل الدولية بشأن أصول إيران المجمدة.. هذا التناقض الخطابي بين البطولات والبكائيات يوضح مدى ارتباك النظام الإيراني في مواجهة العقوبات الأمريكية والاحتجاجات الداخلية..
الاحتجاجات الجديدة تختلف عن سابقتها التي اندلعت قبل أشهر بشوارع مدينة مشهد وعمت المدن الإيرانية. فالاحتجاجات السابقة رغم أنها خرجت بسبب تدهور الوضع الاقتصادي ثم تجاوزتها لترفع شعارات وصلت للمطالبة بإسقاط النظام فقد تم سحقها بقسوة وتراجعت خلال أسابيع نتيجة أن أبناء الطبقة الوسطى لم ينجذبوا لها، فأساس الاحتجاج كان غضب عوائل وأفراد على ضياع أموالهم في صناديق استثمارية أفلست (علي هاشم، بي بي سي).
أما الاحتجاجات الأخيرة فقد انطلقت من البازار (السوق الكبير) عصب الطبقة الوسطى وأحد أركان المجتمع الإيراني وقواعد استقراره. لذا، أُطلق على الاحتجاجات السابقة احتجاجات «شوارع» من بسطاء يرى النظام أنه غُرِر بهم، بينما تلك الأخيرة أُطلق عليها احتجاجات الطبقة الوسطى لأنها انطلقت من البازار. كل ذلك والعقوبات الأمريكية لم تبدأ بعد.. فما هي تلك العقوبات؟
بعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي في مايو الماضي أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية فترتين لبدء العقوبات: 90 و 180 يوماً. الموعد الأول يبدأ في أغسطس المقبل، وهي على تجارة الذهب والمعادن وقيود على الطيران وصناعة السيارات، ستؤثر في قدرة إيران على شراء الدولار الأمريكي. أما الموعد الثاني، فيأتي في نوفمبر، ويتضمن إجراءات تتعلق بالمؤسسات المالية والنفطية الإيرانية. بعد ذلك تبدأ العقوبات على الأفراد الذين كانوا على قائمة العقوبات الأمريكية قبل الاتفاق النووي.
ما الذي سيفعله النظام الإيراني؟ قبل إعلان الانسحاب الأمريكي من الاتفاق حاولت السلطات الإيرانية في أبريل الماضي، وقف انخفاض قيمة الريال الإيراني عبر توحيد أسعار الصرف الرسمية وغير الرسمية والسوق السوداء، بمقدار 42 ألف ريال إيراني مقابل الدولار، وحظرت التداول بأي قيمة أخرى؛ لكنها فشلت في لجم الطلب الحاد على الدولار خارج السعر الرسمي، فأخذ سعر صرف الريال ينخفض أمام الدولار حتى وصل إلى 65 ألف ريال قبل الانسحاب الأمريكي.
أما بعد الانسحاب الأمريكي فقد ثار هلع المستهلك الإيراني من المرحلة المقبلة، فهرع كثيرون لشراء الدولار للحفاظ على مدخراتهم أو على الأقل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فتدهور سعر صرف الريال الإيراني حتى بلغ ما يقارب 100 ألف ريال ليعود وتنخفض قليلاً. ليس هذا السبب الوحيد لتدَهور سعر صرف الريال الإيراني فرئيس لجنة الاقتصاد بمجلس الشورى الإيراني بورإبراهيمي كشف في مايو الماضي عن هروب ما يزيد على 30 مليار دولار من الاستثمارات خارج إيران.
من هنا انطلقت احتجاجات البازار في طهران فواجهتها قوات الأمن الإيراني بقمع أشرس من سابقتها، ثم أعلن النائب العام الإيراني عن اعتقال «أعداد كبيرة» وصفهم بأنهم من «مثيري الشغب».. وأضاف: «سيبقى هؤلاء رهن الاعتقال لحين محاكمتهم، ولن يتم الإفراج عنهم». وقال رئيس السلطة القضائية، بأن من يثبَت إدانته بالمشاركة في الإخلال بالشؤون الاقتصادية في البلاد، قد يواجه عقوبة الإعدام والسجن لمدة 20 عاماً.
لكن القمع وحده لا يكفي.. «في نهاية المطاف، ستؤدي هذه الاحتجاجات إلى تغيير في الحكومة، وستدفعها لإجراء محادثات موضوعية مع القوى العالمية بشأن الاتفاق النووي. حسبما توقع كسرى ناجي الصحفي في قناة بي بي سي الفارسية، وهي بالمناسبة، محجوبة في إيران مع كافة وسائل التواصل الاجتماعي العالمية المعروفة لمنع المتظاهرين من التواصل وحجب المعلومات عن الشعب الإيراني.
بيد أن الأزمة داخل إيران لا تنحصر في تدهور الوضع الاقتصادي، فثمة بنية تحتية للأزمة منذ سنوات، فهناك الفساد وسوء إدارة البلاد والهوة الواسعة بين الأداء الاقتصادي للحكومة وبين طرح خامنئي لفكرة الاقتصاد المقاوم كرؤية اقتصادية بائسة.. إضافة لدور طهران التوسعي وسلوكها العدواني بالمنطقة مما له أكلافه المادية والسياسية، فثمة تكلفة داخلية للتوسع الإيراني في الخارج، رأيناها في شعارات الاحتجاجات السابقة بشوارع إيران الرافضة للتدخلات بالمنطقة العربية، لعل أشهرها «لا غزة ولا لبنان أفدي روحي لإيران»، وشعار «انسحبوا من سوريا وفكروا بنا»..
هذه الاحتجاجات لا تعني أن النظام الإيراني على شفا الانهيار، بل تعني أنه دخل مرحلة جديدة في طريق تراكمي للانهيار.. فالحاجز النفسي المصطنع لـ»قدسية» المرشد الأعلى ولنظامه قد ضُربت في الاحتجاجات السابقة التي انطلقت من مشهد حين أُحرقت صور خامنئي والخميني في الشوارع الإيرانية، ثم جاءت احتجاجات البازار أحد أركان المجتمع الإيراني؛ وبالتالي فالنظام الإيراني قبل هذه الاحتجاجات سيكون غيره بعدها.. الآن، إيران تهزها العقوبات الأمريكية قبل بدايتها، فكيف إذا بدأت!