لبنى الخميس
هل وقفت يوماً في إحدى صالات المطار أمام شاشة عرض الرحلات المغادرة، وهي تعج بأسماء مدن لم يسعك العمر لزيارتها بعد؟ ما الذي يدفعك لمواصلة قراءة أسماءها ومواعيد إقلاعها.. هل هو ذلك الإحساس اللذيذ الذي يبعثه تأمل مدن العالم وهي تصافح بعضها على الشاشة.. أم هو شعور بأنك قريب منها ولا يفصلك سوى خطوات قليلة من بوابة المغادرة إليها وقرار مجنون بتغيير مسار خطتك؟.. هل تأملت في وجوه المسافرين حولك؟.. ألم تفش لك ملامحهم.. فصولاً من قصتهم؟ شوق لقاء ينتظرهم.. وألم فراق يؤرقهم.. وحماس غامر لبناء تجارب وذكريات جديدة.. طالب متجه لإكمال دراسته.. وموظف متحمس لبدء إجازته.. وعريسان سيخطان أول أيامهما سوياً في إحدى جزر العالم.
قد تبدو المطارات بسيطة كختم على جواز سفر، أو اعتيادية كملصق على حقيبة صغيرة، لكنها أول نقطة نصافحها في أي مدينة نحط أقدامها عليها.. ما يجعل أمنها بالنسبة لحكومات العالم هاجساً يقض مضاجعها.. إذ يعني سقوطها بالضرورة سقوط الدولة وانهيار نظامها الأمني.
تخصص الحكومات لمطاراتها ميزانيات طائلة، وتصمم لها أنظمة تفتيش دقيقة لكي لا تتحول هذه البوابات المفتوحة على العالم إلى خرق في نظامها الأمني.. فبعد الحادي عشر من سبتمبر عاش المسافرون إلى مطار جي إف كينيدي لسنوات أسوأ تجارب التفتيش والاستجواب.. لذلك خصصت الحكومة الأمريكية 200 مليون دولار سنوياً لعملاء مدربين على تمييز السلوكيات المشبوهة عبر نظام طوره أستاذ علم النفس بول ايكمان.. يضم 94 علامة مريبة مثل التعرق، تجنب الاتصال البصري، وإبداء معالم الخوف والارتباك.. لكن هذا النظام أثبت عدم كفاءته بالقدر المطلوب. لذا لجأت بعض المطارات الأمريكية إلى تقنية جديدة مبنية على دراسة أجريت عام 2014 وجدت أن الأسلئة المفتوحة وغير المتوقعة أكثر جدوى بعشرين مرة من مراقبة سلوك المسافرين. فعن طريقها تم توقيف 66 % من المسافرين المثيرين للشبهات مقارنة بـ 3 % فقط ممن تم إيقافهم بالطريقة السابقة القائمة على الملاحظة الشكلية لكن، بعيداً عن أمن المطارات وحكومات الدول.
يبدو أن سر علاقتنا الإنسانية مع المطارات يتخطى تلك الحدود المرسومة والبوابات الرقمية الحصينة، فالمطارات في معناها العميق انعكاساً للحياة.. بصورها المتناقضة.. وأوجهها المتعددة.. هي ليست صالات ومدرجات ونقاط تفتيش.. هي نقطة انطلاق إلى وجهة جديدة طال لها الترقب، أو ثقل وقعها على نفوس المسافرين. الوجه الحقيقي للمطارات يتلخص في كل تلك التفاصيل: عيوننا التي تراقب عقارب الساعة.. أصوات المكبرات وهي تصدح بالنداء الأخير.. وآلاف الغرباء المتناثرين حولنا ولا يجمعنا بهم سوى هاجس الرحيل.
البشر في المطارات مسكونون بالمشاعر الحية.. متجهون إلى مغامرة جديدة أو إلى مصير مجهول.. بانتظار أن يعانقوا من طال غيابهم.. أو أن يودعوا من عزم على السفر.. يقول الروائي الإسترالي آندرو هتشينسون عن البشر في المطارات: «إنهم لا يبدون أمامك بالصورة التي يريدونها، ولا يظهرون بالشخصية التي يفضلونها، لكنهم في الواقع يكونون ذواتهم على حقيقتها».
ومن هذا المنطلق، تعد المطارات مسرحاً نابضاً بالأحداث وزاخراً بالقصص في كثير من الروايات والأفلام العالمية مثل: أحد أشهر أفلام توم هانكس «ذا تيرمنال» والذي تدور أحداثه حول شخص قضى عاماً كاملاً في أروقة مطار نيويورك.. عاش خلالها تجربة حياة كاملة دون أن يتخطى عتبة البوابة.
الجدير بالذكر أن الفيلم الذي يبدو عجائبياً من نوعه مقتبس عن قصة حقيقية عن لاجئ اسمه مهران كريمي عاش 18 عاماً في مطار شارل ديغول لعجزه عن العودة إلى موطنه الأم فكان يستيقظ في الخامسة صباحاً ليغتسل ويستمع للراديو ويقضي وقته بين قراءة الكتب وكتابة المذكرات وتأمل وجوه المسافرين، واعتاد العاملون في المطار على غسل ثيابه، وتبرعوا له بأريكة ليرتاح عليها.
ولأن المطارات زاخرة بمشاعر عديدة أهمها طول الانتظار، ظهر صنف أدبي جديد يسمى بروايات المطارات والتي تتميز بوتيرتها السريعة، واعتمادها على التشويق والمتعة عوضاً عن الإثراء الفكري والثقافي، يتصدر سوقها في أكشاك المطارات كلّ من باولو كويلو ودان براون وأغاثا كريستي.
في المقال المقبل نكمل حديثنا عن الوجه الآخر للمطارات،،،