د. جاسر الحربش
الأقدمية في البحث عن الحقيقة، أي المعنى في الحياة والموت والسعادة والشقاء وعلاقة الإنسان بالكون، كانت للدين أو بالأصح للأديان. جميع الأديان السماوية منها والوضعية تبحث عن معادلة متكاملة لسعادة الإنسان، إن لم يكن في الحياة الدنيا ففي الآخرة. كذلك العلم أو بالأصح العلوم تحدد مهمتها في سعادة الإنسان ولكن في الحياة الدنيا فقط، لأن العلوم تشترط خضوع أبحاثها واكتشافاتها لمقاييس معيارية دنيوية، والآخرة خارج إمكانيات العلم القياسي.
العلم يهتم بالطبيعة ومظاهرها وظواهرها، أي بالمادة والقوى التي تخضع المواد والظواهر لقوانينها، وتطور العلم جاء متأخراً كثيراً مقارنة بالأديان وغالباً كانت المحاولات تخنقها المؤسسات الدينية والسياسية. يقول الكاتب اليهودي يوفال نوح هاراري، وهو حقوقي يعادي العنصرية الصهيونية، إن الدين والعلم يشبهان تاريخياً زوجين أبديين، لكل واحد منهما طريقته في المحافظة على الحياة الزوجية، لكن الزوج يحلم بزوجة تشبه سندريلا والزوجة تحلم بزوج وسيم مثل الأمير العاشق، والنتيجة أن كل واحد منهما في نهاية المطاف يفكر كيف يتخلص من تلويثات الآخر للمنزل المشترك.
عبر التاريخ كانت الفلسفة (البحث عن الحقيقة) تلعب الدور الأهم لمحاولة الكشف عن مناطق الصراع أو التوافق بين الدين والعلم، ليس للانتصار لأحدهما وإنما للحقيقة المجردة. مثال ذلك ملاسنات الغزالي وابن رشد وملاعنات فولتير في القرن السابع عشر مع كهنة الكنيسة. من الملاحظ في عصرنا الذي نعيشه الآن، عصر الانفجار العلمي والتقني، أن الفلسفة كاهتمام فكري عقلي تكاد تختفي وتدرس فقط في الأكاديميات كما يدرس علم التاريخ والآثار. لم يعد يظهر فلاسفة كبار ولا أحد يهتم بهم، لا من قبل المؤسسات الدينية ولا المؤسسات العلمية. السبب هو أن جهود الفلاسفة لم تعد مهمة لتوضيح مقدار الخرافة التي تكاثرت مثل الطحالب حول أصول الأديان وبفعل رجال الدين أنفسهم كإضافات بشرية، مما جعل التدين يتراجع عالمياً أمام الاكتشافات العلمية المتسارعة التي لا يصمد أمامها أي شيء لوثته الخرافة. الآن جاء دور العلم نفسه ليبدأ فقدان مصداقيته كمخلص للبشرية من الأمراض والأوبئة والقحط والجوع والحروب والفناء النهائي، وخصوصاً تسخير العلم لطغيان الاستعباد من قبل الأقوى.
الانفجار التقني المعلوماتي الذي أنتجته العلوم الطبيعية والرياضيات أصبح الآن هو المهدد الأكبر لحياة الإنسان ككائن له كرامته وحقوقه وطموحاته في مجتمع عادل متعايش. أصبحت المعلومات الهائلة والمحتكرة عند أفراد أو مجموعات أو جمعيات ومؤسسات، عندما تتركز في أياد احتكارية طاغية هي التهديد الحقيقي الذي يقول للإنسان إن أفكارك لا تهمني وما يهمني هو رغباتك الجسدية التي أريد تسويقها لك وأسيطر بها على ما تنتجه من أفكار وأموال، أي أستعبدك.
اليوم وصلت الأمور إلى حد الهلع عند العقلاء والحكماء في الأكاديميات العالمية تجاه مستقبل البشر أمام القدرات الخرافية للحواسيب وبرمجيات المستقبل والروبوتات، التي قد تحول الإنسان إلى مجرد تابع لتقنياته المعلوماتية التي تتمرد على قدراته ورغباته في التصرف بحياته.
الختام: ثنائية العقل الشرير والإنسان الآلي السوبر قد تتغلب على كل ما اختبرته الأديان والعلوم من صراعات وحروب عبر التاريخ.