اعتماد النظام الرأسمالي على التدخل وحيد الجانب في السوق بعد كمونة باريس منتصف القرن الثامن عشر، جعل تلك السوق «غير حرّة» أو غير تلقائية كما تخيلها روّاد عصر النهضة والتنوير.
التدخل في السوق من جانب الرأسماليين فقط وإقصاء مؤسسات المجتمع المدني، أدى إلى تقويض الديمقراطية في الأنظمة الرأسمالية، التي تم اختزالها في صناديق الانتخابات الخاضعة للمال الانتخابي والإعلام الرأسمالي المتحيز!. ولكن إفراغ مؤسسات المجتمع المدني من محتواها وإقصائها عن السلطة، أي تقويض الديمقراطية، لا يؤدّي إلى هيمنة الرأسماليين على السوق المسماة «حرّة» وحسب، إنما يقوض أساس النظام الرأسمالي القائم على عدم «التفرد بالسلطة» والشفافية الإعلامية والمنافسة الاقتصادية «الحرّة»!.
بالرغم من إحكام القبضة الحديدية على السوق والسلطة، وتصدير الأزمة الرأسمالية إلى الخارج بواسطة الاستعمار، إلا أن النظام الرأسمالي لم يستطع منع ثورة أكتوبر في روسيا، وكاد أن يسقط إبّان «المأزق الاقتصادي» الذي اندلع في 1929 واستمر خلال الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي!.. أقول «مأزق» لأن «الأزمة» مستمرّة منذ نشوء النظام الرأسمالي حتى سقوطه مستقبلاً، ولكن «المأزق» يعني اشتداد الأزمة، ولابد من اختيار بين اثنتين، إما إيجاد «حل» أو سقوط النظام. لذلك ظهرت في 1936 ما يسمى «النظرية الكنزية» للخروج من ذلك المأزق.
تقوم النظرية الكنزية على البنود التالية: أولا- (لا يمكن للعرض أن يخلق الطلب المقابل له).. هنا يعترف الاقتصادي البريطاني (جون كينز) بسقوط النظرية الكلاسيكية في الاقتصاد الرأسمالي، التي تفترض أن زيادة الناتج الكلي، أي «العرض» يؤدّي «تلقائياً» لزيادة أجور الشغيلة، الذي يؤدّي بدوره لزيادة «الطلب». ثانياً- (الاقتصاد يمكن أن يكون بوضع التوازن عند مستوى أقل من التشغيل الكامل) ... أي أن الرأسمالي يستطيع خفض الطاقة الإنتاجية وزيادة البطالة، أو حرق سفن محملة بالبضائع – كما جرى في الثلاثينات- من أجل الحفاظ على مستوى الأسعار، حتى لو أدى ذلك إلى المجاعة!. ثالثاً- (البطالة أمر غير طوعي) .. ماذا يعني أمر غير طوعي؟ .. هل البطالة قَدَرٌ من الله أم نتيجة لسياسات اقتصادية؟ رابعاً- (الأجور والأسعار غير مرنة وتسير باتجاه الانخفاض) .. من كان راتبه ألف دولار في الدول الرأسمالية لن ينخفض إلى أقل من ذلك إذا لم يزد، ولكن زيادة الأسعار أو ما يسمى «تضخم» يجعل صاحب الألف دولار يأكل هو وعياله رغيفين بدل ثلاثة في اليوم بالرغم من زيادة راتبه! ولا أعلم كيف قرر كينز أن الأجور والأسعار تسير نحو الانخفاض؟ خامساً- (لابد للحكومة من تنشيط الطلب الكلي!) .. كيف تستطيع الحكومات «تنشيط الطلب الكلي»؟ هل ستشتري الطماطم والبصل من السوق «الحرة»؟ بالطبع لا .. فلجأت الحكومات في الدول الصناعية لإنعاش الطلب عن طريق مصانع الأسلحة، التي أدت بدورها إلى تنشيط كل القطاعات الأخرى وزيادة التوظيف و»الطلب الكلي»، مما أدى إلى نشوء ما يسمى «المجمع العسكري الصناعي»، الذي اتحد مع «الكارتيل النفطي» ووضع حجر الأساس للشركات عابرات القارات والهيمنة على العالم. سادساً- (يمكن للحكومة التدخل في تنشيط الطلب، وفي الوقت ذاته الحفاظ على الأسعار!) .. بالتأكيد يمكن للحكومات أن تفعل ما تريد، ولكن في هذه الحالة لا يكون الاقتصاد رأسمالياً حراً!.
للأمانة التاريخية فإن جون برنارد كينز وضع «نظريته» هذه من أجل توفير فرص عمل أكثر، حيث أن البطالة في الدول الرأسمالية كلها وخاصة في أمريكا، بلغت مبلغاً عظيماً يهدد بسقوط النظام الرأسمالي. وإذا كان كينز يقصد أم لا يقصد فقد دفع النظام الرأسمالي لمزيد من «الوحشية» للخروج من المأزق.
الجدير بالذكر أن «المأزق» الاقتصادي الحالي للرأسمالية أعمق وأعظم بما لا يقاس من كل الأزمات السابقة، ولم تتفتق ذهنية الاقتصاديين ولا المافيويين ولا «العطارين» عن ترياق يطيل عمر النظام الرأسمالي. ولم تعد الديمقراطية المزيفة قادرة أن تكون «حجاباً» يخفي الوجه القبيح للمافيا الرأسمالية. فهل فرغت جعبة الرأسمال من وسائل الخروج من المآزق؟
** **
- عادل العلي