د. حمزة السالم
قد يمكننا علاجه، وقد نستطيع دفع الإنسان للعمل فوق طاقته بالمنشطات ونحوها، ولكن لفترة محدودة لا تخلو من تبعيات، ثم لا يلبث أن ينهار، وقد نستطيع تجميل الوجه بحدود ضيقة، مع احتمالية وقوع مضاعفات قد تكون خطيرة، وقد نجري عملية جراحية معقدة لاستئصال مرض خطير أو إصلاح عضو ما، فتنجح العملية أو تفشل. ولكننا لا نستطيع مطلقاً تغيير ديناميكية عمل جسم الإنسان فنعطل القلب أو نبدل الدم بالماء أو نغير اتجاه الدم. ولا نستطيع مطلقا التدخل في عمل الأعصاب والمخ إلا بحدود ضيقة وبمخاطر عالية. وهكذا هو السوق واقتصادياته.
فقد خلق الله السوق في شكل أعضاء أساسية (كالقلب والمخ والدماء في الإنسان) وسيره على أنظمة أساسية (كنظام المناعة والخلايا واتجاه مسيرات الدم في الإنسان)، فكما أنه قد يُمكن التأثير على أعضاء الناس لفترة محددة على حساب تبعيات ومخاطر، فكذلك يمكننا التأثير على السوق بالتحكم في أعضائه الأساسية، أو بتغيير الأنظمة نسبياً أو تعديلها، ولكن لفترات محدودة وعلى حساب تبعيات أخرى ضارة وقد تكون خطيرة.
وأفضل الطب ما يتعامل مع سنة خلق الله للجسم، ليعيد الجسم لأصل خلقه إذا تغير عنه بسبب خارجي أو داخلي، دون أي تصادم مع الأنظمة التي خلقها الله لتنظم جسم الإنسان. وكذلك هي أفضل السياسات الاقتصادية. فلا يخرج مجتمع اقتصادي عن سنة الله في خلقه السوق، إلا ويمرض اقتصاده ويتدهور، إلى أن يتعطل ثم ينتهي إلى الفشل عاجلاً أو أجلاً، بحسب قربه وابتعاده في مخالفته لسنن خلق الله للسوق.
وعقل السوق هو الإنتاج. وتركيبة العقل أو ثقافته هي نوع الإنتاج (زراعي، مالي، صناعي، رعوي، حربي).فالإنتاج هو العقل الأمر الذي يتحكم في السوق وأنظمته.
وقلب السوق هو السعر، ودماؤه التي تحمل الغذاء والأوكسجين، هي السيولة (مهما كان نوعها نقداً أو مقايضة).
والإخلال بالسعر أو احتكار السيولة تحت تصنيفها باطلاً بالربا، يُحرف اتجاهات العرض والطلب عن الاتجاهات التي خلقها الله عليه. فتختنق دماء الاقتصاد -أي السيولة- في شرايين وتتطفح في أخرى. فيتآكل السوق بعضه بعضاً، فيسقط بعض جلده فينكشف داخل الجسم للجراثيم، ينما يغلظ جلد بعضها الآخر وتتضخم حتى تصبح عقبة تمنع الأنظمة والأعضاء من العمل.
والأنظمة الأساسية له، نظامان هما نظام زيادة العرض مع زيادة السعر، وعكسه. ونظام انخفاض الطلب مع زيادة السعر، وعكسه. وأعضاء السوق الطلب والعرض. ولحم السوق وشحمه، هما المستهلك والمنتج.
وعظام السوق، الذي لا يقوم السوق إلا بها، هي الحكومة. ويمكن أن يوجد اقتصاد هزيل بلا حكومة، كالاقتصاد الرعوي المحض البسيط، أو الزراعي المحدود، كما أنه يُمكن أن يُولد إنساناً مشوهاً بلا عظم. ولكن يستحيل وجود سوق قوية ومتعافية، بلا وجود دولة نظام وامن. وكلما تقدم إنتاج السوق، كلما زادت حاجته للدولة.
ونظام المناعة في السوق هو الشفافية وحرية الرأي والصحافة، فهي حصن السوق من هجوم الأمراض عليه، كما أن المناعة حصن الجسد من الجراثيم.
وكما أنه كلما اكتملت الأعضاء وارتفعت فعالية تفاعل الأنظمة في جسم الإنسان، وانضباطيتها، كلما زادت حيوية الإنسان وطالت حياته وسلم من الأمراض فكذلك هي السوق أي الاقتصاد. وكما أن كل أعضاء الإنسان وأنظمته متداخلة يؤثر بعضها على بعض فكذلك هي أعضاء السوق وأنظمته.
والسوق لا بد أن يمرض ويتعافى، فالحي لا بد أن يمرض ويتعافى ما لم تكن الأمراض مستعصية، كالسرطان. والسرطان أنواع منوعة، وأخطر سرطانات السوق وأكثرها انتشاراً هو سرطان الفساد. وهناك سرطان النفط وما شابهه من ثروات المصادر الطبيعية. وكما أن السرطان، يدمر أنظمة الجسم وأعضاءه مهما حسن تمام الأعضاء وكمالها، مهما ارتقت أنظمة الجسم في فعاليتها، فكذلك أمراض الاقتصاد المستعصية تدمر أركان السوق وأنظمته مهما ارتقت هذه الأنظمة.
والنفط يعطل الإنتاج في الاقتصاد، فتُخلق الاقطاعية فتفرض الدكتاتورية، فيعمل الثلاثة على تأصيل الفساد في السوق. والفساد يخل بالسعر، الذي هو قلب السوق النابض، فيختل توازن الأنظمة وانضباطيتها. فأجور العمالة من السعر، فمتى أُرخص الكفؤ وأُغلي الكسول، ماتت حينها الإنتاجية، ففسدت العقول والعلوم والقلوب.