د. خيرية السقاف
تتداخل أقدامهم, يسرعون كل منهم لوجهته, تحملهم المصاعد الكهربائية المتحركة معاً, ويفترقون عن بعضهم بعد آخر نقطة تفتيش تجمعهم, هناك من يبتسم في وجوههم, وهناك من لا يعبأ بأحد, وهناك من يصطدم بك فيلقي كلمات الاعتذار, وهناك من لا يفعل, وأنت, تزج نفسك بينهم, متجهاً، حيث منفذ عبورك للمركبة المعدنية المستطيلة التي ما إن تجلس في مكانك منها إلا وتلف مرغماً حول خاصرتك حزاماً ذا مزلاج حديدي, نوعٌ من القيد القسري, تسأل نفسك: أنا هذا الإنسان, بلحمي, وعظمي, بفكري, وحسي, ما الذي معي مني؟!.. وما الذي خلفته ورائي عنِّي؟..
ثم يأتيك صوت أجش لك معه ملامح خفيّة لزمن كنت فيه ترفل نشاطاً, وحيوية حين كنت تستقل عربتك متجهاً في الصبح الباكر لجهة عملك, والمذياع ينقله إليك داعياً مبتهلاً, فتمسح وجهك بكفيك اللتين استقبلتا أنفاسك المضمَّخة بالدعاء, ثم تطلق زفراتك العبقة بالطمأنينة, وتغادر عربتك متجهاً صوب باب مكتبك..
في الطائرة تمسح وجهك بكفيك ذاتهما, لكنهما وقد حفظتا رائحة الورق, وعطور المصافحين, ودفء المحبين, وحنين الراحلين, وعزم الناجحين, ووهج المتعاقدين, وكل الزمن الذي ترك فيهما أثره وهما بالخطوط ذاتها, التي لم تتغيّر إلا شيئاً من رسوم الزمن فيهما, وبصمته في جلديهما..
تعود للمس الحزام الذي يطوّقك فوق مقعد الطائرة بعد أن تفرّغ من كسح وجهك بعد الدعاء, تتأمل هذا الحبس الإرادي الذي زججت نفسك فيه لبعض من ساعات الوقت وهو يمر بك دون أن تنقبض أنفاسك في صدرك, دون أن تبحث عن منجاة من قضبانه, دون أن تفعل شيئاً آخر ينسيك وضعك الذي لا حراك فيه إلا لرحلة أخرى وأنت في مكانك من خلال نافذة صغيرة إن قدر لك أن تكون إليها, التي لا تمنحك هواءً منعشاً إلا نوراً, أو ظلمة, بتوقيت لحظاتك داخل هذا السجن المستطيل, الذي لا تملك فيه حراكاً عن مقعدك إلا محدوداً, فتذهب عن هذه النافذة حراً طليقاً بأفكارك, راصداً متأملاً بعينيك هذا الملكوت الذي كنت أدنى منه بمسافات لا محدودة, وهو بين عينيك ملمس الحس, تحت بصرك, سعة بصيرتك, مدَّ حسَّك, تحلق خارج النافذة حراً طليقاً من قيد الحزام, ومعدن الطائرة, فإذا ما امتزجت جوارحك برائحة القهوة, غدوت الطائر الذي من أجل هذه الأجنحة الذهنية التي تستقلها تقدّم بين يديها كل التنازلات لكي تُسجن برغبتك لساعات في هذه المركبة, وأنت راضٍ تطوِّق خاصرتك بقيد الحزام, وتنطلق من نافذتها بعيداً بعيداً إلى حيث الحرية المطلقة لعنان الأفكار, والمشاعر خارج الجسد المعدني, وجسدك!!..