د. جاسر الحربش
لا أظن التغزُّل بالكرم في قصائد المدح الكاذبة كانت في أي زمن مضى أكثر منها في الزمن الحاضر (وأقصد في المجتمع الخليجي)، ولا حتى في الدولتين الأموية والعباسية. خذ عشوائياً مائة قصيدة شعبية ومثلها فصيحة وستجد تسعين من كل مائة منها في امتداح نوع محدد من الكرم، هو إكرام البطون بالموائد، وأن أقلها أو لا شيء منها يكون في مدح كرم التعامل الأخلاقي مع البشر بدون تمييز لجيوبهم أو لمكانتهم الاجتماعية.
لدينا فجوة أخلاقية في امتداح أناس أصبحوا أثرياء فجأة فوسَّعوا وكبَّروا في موائد اللحوم والشحوم، ولم يكن أكثرهم يُعتدُّ به قبل ثرائه بسبب مواصفاته الأخلاقية. أحياناً، بل وفي أحيان كثيرة تُدبَّج قصائد المديح في شخصيات تحوم الشبهات حول طرق حصولها على الأموال التي استغلت جزءاً منها للإنفاق على الموائد الدسمة، بهدف قطع ألسنة الهجائين والمتكسبين.
قال لي مراجع ذات يوم في سنوات انهيار الأسهم، وكان مصاباً بهيجان عنيف في الأمعاء الغليظة (القولون العصبي)، إنه بدأ يشعر بالآلام بعد أن فقد ثروته في سوق الأسهم، ولكن الآلام أصبحت مبرحة تحرمه من النوم عندما انقطع الزوار عن بيته وصمت السائلون عن أحواله. قال لي: يا دكتور قبل فقدان ثروتي كنت أعلِّق ذبيحة أو ذبيحتين يومياً للزوار وبابي مفتوح ومجالسي عامرة بالغادين والرائحين حتى منتصف الليل. بعد أن خسرت ممتلكاتي وأصبحت مديوناً للبنك لم أعد قادراً على الذبح والسلخ فبدأت آلام القولون تعاودني، ثم أصبحت تلازمني ليل نهار حين لاحظت انقطاع الزوار والاتصالات التلفونية. (انتهت قصة المراجع).
الفجوة الأخلاقية في مفهومنا الاجتماعي لقصائد المداحين تتمثل في أننا نعرف أن أكثرهم كاذب يعرف أنه يبالغ في الكذب، ولكننا على الرغم من ذلك نقبل منهم إيهامنا بأن الكرم الذي يمتدحونه يستر عيوب الرجال مهما عظمت، وأن البخل يكشف هفوات أصحاب الأخلاق الفاضلة مهما صغرت، وذلك لأننا لا نفكر أن أخلاق هؤلاء لا تسمح لهم بإكرام الكاذب والمنافق والمتسول بلسانه. أن يكون الإنسان الفاضل مستور حال أو صاحب مروءات خفية لا يظهرها للناس لا يهم، فهو في المفهوم الاجتماعي لكرم البطون إنسان بخيل.
هذه المواصفات للكرم غير موجودة كلازمة حضارية عند الأمم المتحضرة، لكنها واسعة الانتشار في المجتمع الخليجي بالذات، وهذا عيب أخلاقي حضاري.. لماذا؟. لأن الكرم الحقيقي لا يستجيب للاستجداء باللسان أو باليد، وإنما يبحث عن ستر المحتاج عند اكتشافه، علاوة على أن رمي ثلاثة أرباع المائدة في حاويات القمامة سفاهة أخلاقية وشرعية.