مثلت الأسوار والمرابيع والبوابات أهم وأقوى وسائل الدفاع والسيطرة على البلدات لحمايتها من العدوان الخارجي والسيطرة على حركة الدخول والخروج منها ولها، وكان السور يسمى الحامي نسبة للحماية، وقد اتسمت الأسوار بارتفاعها وضخامتها وسماكة جدرانها، وكذلك المرابيع بارتفاعها وضخامتها عن السور، وكانت مقرا لرجال الحرس ورجال القناصة المعروفين بـ(البوا رديه) من خلال إدخال ماسورة البندقية بالفتحات الموجودة بأعلاها لقنص الغزاة، ولقد كان بناء الأسوار وتوزيع المرابيع يتم بموجب خطة إستراتيجية دفاعية بحتة مبنية على الدراسة الجغرافية لطبيعة البلدات. فنجد أن البلدات المفتوحة التي لا يوجد حولها جبال يكتفى بالسور والمرابيع والبوابات، أما البلدات التي تحيط بها الجبال فيتم استغلالها لبناء أبراج المراقبة عليها بالإضافة للسور.
وعن أهمية الأسوار في حماية البلدات سوف نتحدث بحول الله في هذا المقال عن حامي بلد الحريق (محافظة الحريق) أو ما يسمى بالحفر، الذي لم يكتب المؤرخون عنه شيئًا، وما زالت ذاكرته وبقايا أسواره ومرابيعه عالقة لدى كبار السن خاصة الذين توارثوا ونقلوا ذكريات وتاريخ وأسباب بنائه وأسراره عن آبائهم وأجدادهم فكانوا يسمونه الحفر نسبة للحفر الذي أقيم أمامه من الناحية الخارجية بعمق عدة أمتار لإعاقة دخول الخيل فبناؤه يعود إلى مطلع عام 1253هـ فترة الدولة السعودية الثانية وما صاحبها من صراعات داخلية حظي البعض منها بالدعم العثماني لغرض إسقاطها والسيطرة على منطقه نجد وما جاورها، فقد أمر أمير الحريق الأمير الفارس الشجاع تركي بن عبدالله بن رشيد الهزاني الأهالي الاستعداد للحرب وفقا لما ذكره المؤرخ العلامة عثمان بن بشر في كتابه (عنوان المجد في تاريخ نجد) أن القائد العثماني إسماعيل آغا وخالد بن سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود أرسلوا إلى الهزاني وأهل الحوطة في مطلع شهر صفر من عام 1253هـ يطلبون منهم (الانصياع والقدوم للرياض للمبايعة فأبوا عليهم وكتبوا لخالد بن سعود بأن الأمر إذا كان لك فنحن لكم مبايعون وإذا كان الأمر للترك فنحن لهم محاربون فغضب إسماعيل آغا وأتباعه من ذلك الرد وقالوا لا نرضى إلا بقتالهم ونهب أموالهم) وقد إشارات الوثائق العثمانية أن إسماعيل آغا طلب من مشايخ الحوطة والحريق أن يحضروا إليه ولم يردوا عليه ولم يتوقف الأمر عند هذا التهديد بل أرسل جواسيسه وعيونه من معاونيه للحوطة والحريق لتقصي الأخبار ومعرفه الأوضاع العسكرية... إلخ. هناك وقد ذكر في إحدى الوثائق العثمانية خبرًا مفاده استعداد أمير الحريق تركي بن عبدالله الهزاني للحرب وأنه أقام القلاع والحصون والخنادق لصد الجيش العثماني وأعوانه.
وبعد الكتاب الذي بعثه أمير الحريق للأمير سعود بن خالد بمبايعته فقط وتهديد القائد العثماني بقتالهم واستعداد الهزاني وأهل الحوطة لمحاربتهم، بدأ أمير الحريق الاستعداد لمقاومة وصد الغزو العثماني وأعوانه وكان على اتصال وتنسيق وتعاون في تبادل المعلومات العسكرية مع أهل الحوطة لمقاومة هذا العدوان الذين كانوا كذلك على استعداد لتلك الحرب. وبدأت ساعة الصفر بالحريق وأخذ الأمير يعد الخطة لحماية البلدة الذي يملك الكثير من الخبرة العسكرية حيث إنه شارك أهل الرس في الدفاع عن بلدتهم عند حصار إبراهيم باشا لها عام 1232هـ، كذلك كان في طليعة أمراء الأقاليم الذين ساهموا بالدفاع عن الدرعية عام 1233هـ، وممن ساهموا مع الأمير فيصل بن تركي في توطيد الحكم شرق البلاد ورافقه ناحية القطيف كذلك كان على رأس الذين بايعوا الإمام فيصل بن تركي بعد مقتل والده الإمام تركي بن عبدالله وساروا معه من الأحساء للرياض لاسترداد حكم أبيه وكان ذلك في التاسع عشر من شهر محرم عام 1250هـ.
وقد ساهمت تلك الخبرة العسكرية في بناء خطة إستراتيجية دفاعية لحماية البلدة فتم التخطيط لبناء الحامي واختيار الناحية الغربية من البلدة من الجبل الشمالي (خشم بن نهين) إلى الجبل الجنوبي (خشم الصفراء) وذلك لكون الجبلين يمثلان موقعًا استراتيجيًا ويبعدان عن وسط البلدة عدة كليو مترات وهذا الاختيار أعطى البلدة عمقًا أمنيًا بالدفاع عنها وقد هب الأهالي كبيرهم وصغيرهم لنداء أميرهم للدفاع عن بلدتهم وبنوا الحامي من الطين واللبن وبسماكة تتجاوز الأربعين سنتيمترًا وبارتفاع يتجاوز الستة أمتار وحفروا أمامه من الناحية الخارجية خندقًا موازيًا له (الحفر) على طول امتداده لإعاقة دخول الخيل بطول قرابة الثلاثة كيلو مترات كذلك بنيت على امتداده مرابيع دائرية الشكل ولها باب من الداخل لدخول رجال الحرس والقناصة معه وقد بني الحامي في فترة لا تتجاوز الشهرين، فكان اختيار الأمير تركي تلك الناحية لدرايته أن العدو سوف يقصدهم ناحية الحلوة التي تقع جنوب الحريق ومتطرفة من وادي الفرع وتقع وسط وادٍ تطل عليه الجبال ويسهل رميها بالمدافع. ولقد مثل بناء الحامي والحفر الذي أمامه تحديًّا للأهالي لمقاومة العدوان والدفاع عن بلدتهم.
كان أمير الحريق عندما قال للأمير خالد بن سعود إننا لهم محاربون كان على ثقة بقبوله التحدي لثقته بشجاعة واستبسال رجاله والأهالي لمقاومة الغزاة.
وقد تضمنت الخطة الدفاعية لأمير الحريق بالإضافة إلى بناء الحامي إبقاء ابنه سعد بقوة عسكرية بالحريق يبلغ عددها (1500 مقاتل) تحسبا لأي تطورات تحدث في مواجهة الترك بالحوطة (الحلوة) فقد كسب التحدي وقد ساهم أهل الحريق ونعام والحوطة في دعم أهالي الحلوة وإلحاق الهزيمة بالقائد العثماني وأعوانه هزيمة عظيمة في منتصف ربيع الآخر من عام1253هـ اهتزت لها أركان الأستانة التركية والجزيرة العربية والخليج ولقد كان أهل الحوطة والحريق عند كلمتهم وقبلوا التحدي، ومع مرور السنين وإقامة المزارع اختفت معالم الحامي لكن ما زالت بقايا الحامي موجودة حاليا على امتداد طريق الملك عبدالعزيز من الناحية الغربية شاهد على عصر مضى ومعبرة عن قبول التحدي وعنوان للشجاعة والتضحية والصمود في وجه الأعداء.
وأخيرا نرجو من الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني ممثلة بفرعها بمنطقة الرياض العمل على إعادة تأهيل الأجزاء المتبقية من الحامي والواقعة حاليا في الناحية الغربية الشمالية على امتداد طريق الملك عبدالعزيز والعمل على عقد شراكة مع المجتمع المحلي لحماية ذلك الإرث التاريخي الذي يستحق العناية والاهتمام من الهيئة والأهالي بمحافظة الحريق.
** **
محمد بن ناصر بن محمد الجمعان - مدير متحف نفحات الماضي بمحافظة الحريق