أحمد المغلوث
الباحث في تاريخ الأحساء، هذه المنطقة العريقة والتي كانت في عهد المؤسس طيَّب الله ثراه ثالث إقليم بهذه الأرض المباركة والتي بعد توحيدها باتت تحمل اسم المملكة العربية السعودية. والباحث والقارئ معاً للتاريخ بعمق وبشفافية وحب يكتشف أن «الأحساء» التي جذبت الرحّالة والمستكشفين راحوا يكتبون عن مشاهداتهم ومشاعرهم تجاه طبيعتها وبساطة أهلها وطيبتهم وتعايشهم. ولقد أشار إليها قبل مائة عام وأكثر الرحالة الدانمركي «كليبر» عندما قال إنها أجمل منطقة شاهدها في الجزيرة وكان قد قام هذا الرحالة برحلته الشهيرة وعلى جمله قادماً من العراق ثم الكويت وجزء من شمال المملكة وصولاً إلى الأحساء. وقبل «كليبر» جاء آخرون أمثال بركهاردت ونيبور وزويمر.. كذلك قيام بعض المؤرّخين أمثال آدم متز وكوربان وفلهازون وغيرهم والذين دهشوا عندما شاهدوا طبيعة هذه الواحة الغنية بمنتجاتها الزراعية؛ ففيها مئات الآلاف من أشجار النخيل والليمون والرمان والتين والموز والخوخ والأورنج والعنب بنوعيه ومختلف أنواع الخضار والورقيات.. إضافة إلى تميّز حرفيوها بالصناعات التقليدية المختلفة والتي كانت سائدة فيها من أقدم العصور وجميعهم تفننوا في إنتاج ما يلائم بيئتهم الزراعية واحتياجاتهم المختلفة، وكذلك إبداعهم في صناعة النسيج وكل ما له علاقة بملابسهم ويعزو الكثير من هؤلاء الرحالة والمؤرِّخين إلى تجذّر نشأة حضارة هذه المنطقة والتي تمتد جذورها إلى ما قبل الميلاد بألوف السنين. ومتحف الأحساء يضم من بين محتوياته قطع اثرية تؤكد حضارتها وعمق تاريخها وإبداع إنسانها مما جعلها ومع مرور القرون منطقة جذب تجارية وحتى استيطان. وكانت الأحساء وكما هو معيش عبر التاريخ وكما كتب المنصفون بأنه عطاء خدم الحضارة الإنسانية وهو دائم التجدد، ويؤكد على ما يتسم به أبناء المنطقة من إبداع متوارث أصيل ومتجدد ومعبّر عن الأرض والبيئة، وهذا ما نشاهده حتى في هذا العصر المتطور، ونقولها بصدق وشفافية وبدون مجامله أن إبداع أبناء المنطقة ما زال هو الأفضل والأميز حتى اليوم. مثل صناعة «المشالح» و»العبي» و»ثياب الزري والترتر النسائية». وعندما نشير إلى حضارة الأحساء. فمن الضروري أن نشير إلى علاقتها بحضارة دلمون والتي هي أيضاً جزء لا يتجزأ من حضارة المنطقة، فكانت الأحساء قديماً تُعرف بالبحرين وتمتد من أطراف العراق شمالاً حتى جنوب الربع الخالي.. كذلك كانت مؤثّرة في حضارة ماين النهرين وفي مختلف العصور السومرية والبابلية والآشورية. وكان التبادل التجاري نشطاً وفاعلاً خلال تلك العصور مما أكسب الحضارتان قوة وتعاوناً وتأثيراً كبيراً. ومن المعروف أن الأحساء أو البحرين أو حتى «هجر» كان الكعنانيون الذي يسكنون في «الجرها» وبالقرب من العقير تميزوا في فنون البحر وصناعة السفن وحتى الزراعة، ومن المعروف تاريخياً وعلمياً أن البيئة تلعب دوراً رئيسياً في التأثير على من يقيم فيها وينعم بحضارتها ومن ثم ينقل ذلك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة للأجيال، فعندما هاجر جزء كبير من «الكنعانيين» إلى شمال الجزيرة واستوطنوا أرض فلسطين. نقلوا معهم ثقافاتهم وعلومهم وصناعاتهم وإبداعهم في فنون البحر.. وبالتالي أورثوها إلى أحفادهم «الفينقيين» الذين ورثوا ما ورثوه من آبائهم وأجدادهم وبحكم معرفتهم بفنون البحر وصناعة السفن بدأوا يمارسون التجارة البحرية وغيرها في حوض البحر الأبيض المتوسط. ومن خلال ذلك نقلوا معهم أينما أقاموا فسائل النخيل التي كان أصلها من الأحساء.. وغيرها من الصناعات والمنتجات كالنسيج. ولو تجوّلت في مدن شمال إفريقيا أو إيطاليا وصقلية، لوجدت أبواب بيوتهم تشبه إلى حد كبير الأبواب القديمة في الأحساء وحتى الطرق بين البيوت تجد تلك (الغرف) التي تشكِّل جسراً ما بين كتلة سكنية وأخرى كما في مدن الأحساء القديمة.. فلا عجب بعد هذا أن تحظى الأحساء بموقع مميز في التراث العالمي. فهذا أقل ما يجب منحه لأحساء الحضارة والإبداع..