د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
من لدن حركة الأجسام وجاذبية «إسحق نيوتن» في القرن السابع عشر مرورًا بنسبية «ألبرت آينشتاين» وكمّ «ماكس بلانك» في القرن العشرين ومَن بينهم ومَن تلاهم ترسخت نظرية «ميكانيكا الكم» ضمن نظريات «الفيزياء الحديثة» التي ألغت فوارق الزمن بين ماضٍ وحاضرٍ ومستقبل، وتجذرالاقتناعُ بتبادل التأثير بينها عبر «موجبات وسالبات ومحايدات» تسير وفق أنظمة ثابتة تحفز العالِم على الكشف والمتعلم على المتابعة والعلمَ على التكامل والتفاعل والاتئاد كما الاتقاد، وليت ما بقي من العمر يأذن بتغيير التوجه من مَناطِقة الإنسانيات نحو نطاقات «الموجات والجسيمات».
** وفي الضفة المقابلة تسود الفوضى ذوي الاهتمامات النظرية؛ فلا اللغةُ ما نعرفُه ولا الشعرُ ما نألفُه ولا الإعلامُ كما كان ولا الأَعلام كمن كانوا، ولم يبق في نظرية الاتصال العتيقة المكونة من مرسل ومستقبِل ورسالة ووسيط إلا « مصادرُ التشويش»؛ إذ لا مرسل واحدًا لرسالة مخصوصة ولا وسيط محددًا لمستقبلين منهجيين.
** اختلط المرسل والمستقبل في دور غائم، ولم تُحافظ الرسالة على سياقها المعبر كما المؤثر، وتعددت الوسائط حتى لم يعد المرسل مدركًا أين يرسل ومن يستقبل، وحتى حين يعي فإن رسالته ستتبدل كما تُتبادل عبر وسائط لا يعلمها وربما لا يقتنع بها، وأضحى التشويش هو القاعدة والصفاءُ هو الاستثناء.
** في المتغيرات ما نؤمن به، وفيها ما لا يأبه بنا ولا يلتفت إلى اقتناعاتنا ولا يُهمه أن يستأذننا كما لا ينتظر أن نأذن له فامتزج الجمع الذي كان منتظمًا في خليطٍ غرائبي تتجاور فيه الأضداد الثقافية ولا تتحاور، وصار من العَصيِّ الفصلُ بين مكونات الفضاء؛ فلا معنى لحكمة ولا وجود لمتحكم، وباتت فوضى المعلومات والآراء قاسم الهمِّ ومنطلق الوهم.
** غيرت التقنية الرقمية –بوسائطها- أنظمة الحياة المجتمعية والثقافية وما فوقهما وما بينهما وما يتصل بهما من شؤون آنيةٍ واستشرافية؛ فصارت المَورد والمَصدر لمن شاء ولمن لم يشأ، وتوارت الوسائط التقليدية بما فيها الكتاب والإذاعة والتلفزيون والجريدة، ولم نعد نعرف العالِم بل « العوالم»، ولا يجتذبنا الهادئُ المهادن بل الشرسُ المُطاحِن، ولا تعنينا نزاهة المحاكمة ومصداقية الأحكام؛ فالفرد يصنع من نفسه متهِمًا ومدعيًا وقاضيًا ولجنة محلفين، والبقية على أثره هائمون يصدِّقون على أقواله دون أن يفكروا بهذا الذي صنع من نفسه خصمًا وحكمًا ومرسلاَ ومستقبلًا بعدما نطق الصامت و»ثرثر» الحاكي وزُكِّيَ من لا تُقبل شهادتُه وتسنم من لا تُهمُّ إشادتُه، ويتساءل بعضُنا: هل أنتم مطمئنون إلى الغد الثقافي لأجيالكم؟ وتقف الإجابة وينكفئُ المجيب.
** نجا العلم التطبيقي من صخب الهذْر والهدر، وظهر جيل قادرعلى نقل المفاهيم العلمية بلغة عذبة فانصرف بعضنا ببعضه إليهم وآن أن يولي كلَّه نحوهم ويدعَ غبار التدابر والتناحر لمن يطيق استنشاقَه.
** العلمُ لا يقفُ بل يستوقف.