د. عبدالحق عزوزي
بعد مرور ثمان وستين عاما منذ التوقيع على معاهدة الشمال الأطلسي التي كانت وراء إلزام الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وعشر دول أوروبية اعتبار أن أي هجوم على أي دولة منها هو هجوم عليها جميعا، تنعقد قمة حلف شمال الأطلسي في بروكسل وسط غيوم ضبابية قل نظيرها لعل أبرزها ما قام به الرئيس عندما شن هجوما حادا على ألمانيا متهما إياها بإثراء روسيا وعدم الوفاء بالتزاماتها بسبب مشروع أنبوب الغاز نورستريم الذي سيربط مباشرة روسيا بألمانيا؛ وطالب الرئيس الأمريكي بالتخلي عنه. وهذا المشروع يثير انقساما في صفوف الأوروبيين، إذ إن بولندا بدورها تعتبر أن أوروبا لا تحتاج إليه. وتستورد دول الاتحاد الأوروبي ثلثي احتياجاتها من الاستهلاك (66%). وفي العام 2017 شكل ذلك 360 مليار متر مكعب من الغاز بينها 55 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال بقيمة 75 مليار يورو بحسب الإحصاءات الأوروبية. وحتى الآن نصف الغاز الذي يتم شراؤه هو روسي... ولكن الخبراء يؤكدون أن وراء الحملة الأمريكية ضد روسيا، رغبة في غزو أسواقها لبيع غازها الطبيعي. فهي صدرت 17,2 مليار متر مكعب عام 2017 بينها 2,2% نحو موانئ الاتحاد الأوروبي. ونفهم إذن عندما يهاجم ترامب بشكل عام أعضاء حلف الأطلسي الذين «لا يدفعون ما عليهم» للنفقات العسكرية. ونتذكر أن الحلفاء تعهدوا في العام 2014 إنفاق 2% من إجمالي الناتج المحلي لبلدانهم على شؤون الدفاع بحلول العام 2024، لكن حوالي 15 دولة عضوا في الحلف بينها ألمانيا وكندا وإيطاليا وبلجيكا وإسبانيا لا يزال إنفاقها على الدفاع تحت عتبة 1,4% في 2018 وستكون غير قادرة على احترام وعدها الأمر الذي يثير غضب الرئيس الأمريكي ؛ ونفهم أيضا ربطه الذكي بين مسألة إمداد الغاز الروسي لألمانيا ومساهمة هاته الأخيرة في الحلف الأطلسي، وهو ما جعله يقول قبل القمة «ألمانيا دولة غنية، يمكنها زيادة مساهمتها اعتبارا من الغد بدون أي مشكلة».
وردت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل إن لألمانيا سياساتها الخاصة مؤكدة أن بلادها تتخذ قراراتها في شكل «مستقل» بدون ذكر اسم ترامب...
المهم أنه في كل القمم التي يشارك فيها الرئيس الأمريكي، على الدول المشاركة أن تنتظر نصيبها من المفاجآت التي تحملها السياسة الخارجية الأمريكية الجديدة والتي لم يعهدها النظام الدولي قط. ولكن هل هذا سيؤثر على تواجد الحلف الأطلسي كمؤسسة عسكرية إستراتيجية؟ لا أظن ذلك.
فأية قراءة تاريخية واستراتيجية لميثاق الأمم المتحدة توحي بالأساس إلى ضرورة إنشاء قوة عسكرية دائمة لتطبيق قرارات مجلس الأمن، وهي القراءة التي يمكن أن تبلور في نموذج شراكة منظمة حلف الشمال الأطلسي. فالقوة الكامنة في أي شبكة يكون مصدرها الروابط أو لنقل كما يطلق عليه منظرو الشبكات «الوسطية المركزية» بمعنى كما تكتب الزميلة المقتدرة آن ماري سلوتر، أن العضو الأكثر قوة في أي شبكة يشكل العقدة ذات الصلات الأكثر بالعقد الأخرى، وهذا يعني أن أي عقدة قادرة على زيادة قوتها ليس فقط بإضافة وصلات مباشرة، بل وأيضاً من خلال زيادة الارتباط بالعقد القريبة، بمعنى كما توحي بذكاء آن ماري سلوتر تستطيع الولايات المتحدة زيادة قوتها سواء بالارتباط بالدول الأعضاء الأخرى في منظمة حلف شمال الأطلسي (ثم ضمان اتصال المنظمة بأكبر عدد ممكن من الدول والمنظمات) أو بزيادة قوة الارتباط بين هذه الدول والمنظمات الأخرى. وإذا ارتبطت منظمة حلف شمال الأطلسي بالاتحاد الأفريقي على سبيل المثال، فإن منظمة حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأفريقي يصبحان أكثر مركزية بالنسبة للشبكة وبالتالي أكثر قوة من حيث قدرتهما على فرض النفوذ وحشد الموارد... فمنطق المركزية كمصدر للقوة يعمل على خلق حلقة حميدة، حيث يكتسب أعضاء الشبكة ميزة خاصة من خلال جلب المزيد من الأعضاء إلى الشبكة والارتباط بها بشكل أكثر قوة. وهذا هو على وجه التحديد المنطق الكامن وراء تحول منظمة حلف شمال الأطلسي حاليا.
فهاته المنظمة مؤسسة نجحت في خلق توليفة إسترتيجية للنظام الدولي تجمع حسابات التقلب والتوجس والتعقيد والغموض، وهي السمات التي تطبع البيئة الإستراتيجية الدولية التي يصعب فيها التنبؤ بما سيحدث. قد تخفض أمريكا من نفقاتها العسكرية على هاته المنظمة، وقد تضطر دول التحالف الأخرى للمساهمة أكثر في ميزانيتها، ولكن أن يكتب لهاته المنظمة الزوال، فهذا من باب المستحيل.