حمّاد السالمي
* بعد صدور نظام التحرش الذي لاقى قبولًا واسعًا في المجتمع؛ تتجه بلادنا نحو المزيد من التشريعات المهمة، التي تضبط السلوك العام، وتنظم العلاقة بين الفرد ومجتمعه والمؤسسات العامة والخاصة. ومن ذلك ما يدور من نقاشات جادة حول تنظيم يجرم التكريه والتحريض من منطلقات طائفية ومذهبية وقبلية ونحوها.
هناك تنظيم آخر سبق طرحه في مجلس الشورى- وعسى أن لا يتم وأده بسبب رفض وتمنع بعض اللجان- مثل هذا النظام الذي يرعى الأخلاق، وينظم الذوق العام، ويحفظ الآداب العامة التي هي واحدة من أهم مظاهر التمدن والتحضر في المجتمعات البشرية، بل هي سمة دينية وإسلامية حض عليها ديننا الحنيف، ودلل عليها من خلال وصف القرآن الكريم لنبينا المصطفى صلوات الله وسلامه عليه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، وهو- صلوات الله وسلامه عليه- الذي علّم أصحابه أسس هذه الآداب فقال: (إنَّ من أحبِّكم إليَّ وأقربِكم منِّي مجلسًا يومَ القيامةِ؛ أحاسنُكم أخلاقًا، وإنَّ أبغضَكم إليَّ وأبعدُكم مني يومَ القيامةِ؛ الثَّرْثَارُونَ والمُتَشَدِّقُونَ والمُتَفَيْهِقونَ، قالوا: يا رسولَ اللهِ: ما المتفيهقون؟ قال: المتكبِّرونَ). كما أخبرنا عليه الصلاة والسلام؛ أنه إنما جاء متممًّا لمكارم الأخلاق. وهذا يعني أن العرب حتى في جاهليتهم؛ كانت لهم أخلاق كريمة تراعى وتحترم، فكيف وقد جاءهم دين حنيف على يد رسول منهم يتمم مكارم أخلاقهم بما لهذا الدين من أخلاق حميدة.
* إن من لزوميات الآداب العامة والذوق الأخلاقي؛ مراعاة مشاعر الآخرين في كل زمان ومكان. في الدار والمسجد والشارع ليلًا ونهارًا. المشهد العام في المساجد والمساكن والشوارع والميادين؛ هو ملك للكل وليس لشخص دون آخر، حتى المظهر الخارجي للدور؛ ينبغي أن يكون مريحًا للذوق العام، فكم من صاحب دار دفع الغالي والنفيس لدار كبيرة جميلة، ولكنه يعمد إلى تشويهها من خارجها بسور مرتفع، وزيادات منفرة وصادمة للنظر، وكم منا من يسهم في التشويه البصري والبيئي لحيه ومدينته وبلدته دون أن يشعر ربما، ويتعدى هذا الأمر إلى خدش مشاعر الناس قولًا أو عملًا، بقصد أو بدون قصد، ومن ثم التعدي على خصوصياتهم دون حياء أو خجل، ونلاحظ هذا مما يُصور وينشر ويكتب من شبابنا الذين يقودون المركبات ويسرحون في الشوارع والأسواق، حتى أن الواحد منهم يخدش الذوق العام في ملبسه، وفي الشكل الذي يظهر به أمام الناس.
* سرني طرح مجلس الشورى لهذا الموضوع، وساءني اعتراض بعض اللجان عليه. النظام يؤطر لحفظ الأخلاق العامة من خلال أكثر من 23 مادة مهمة، تلزم المخالف دفع غرامات مالية والسجن، وهي كثيرة ليس أدناها رمي القاذورات والمخلفات في الشوارع، وليس أعلاها تعاطي التدخين في الأماكن العامة. إن تشريعًا كهذا في حالة صدوره وتطبيقه؛ سوف يسهم إلى حد كبير في التربية الأخلاقية، التي لم تنجح فيها خطب الجوامع، ولا حتى المقررات والمناهج الدراسية، على قاعدة القول المأثور عن عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي قال: (إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن). وفي هذا الخصوص؛ قرأت رأيًا تأسيسيًّا منشورًٍا للدكتور فايز الشهري عضو مجلس الشورى الذي طرح هذه الفكرة الرائدة قال: (إن المتغيّرات الاتصاليّة السريعة؛ وضعف دور مؤسسات الضبط الاجتماعي؛ فرضت على مجتمعات اليوم بعض الأنماط السلوكية الجديدة، التي قد تتجاوز في بعض مظاهرها مفهوم الحرية الفردية إلى التعدي على الذوق العام للمجتمع. لقد سعت كثير من المجتمعات إلى حماية موجبات الذوق العام؛ بحسب الزاوية التي يُعرّف من خلالها الذوق العام، وتبعًا للخصائص الثقافية لكل مجتمع، ومع تنوّع المفاهيم؛ إلا أن معظم المجتمعات الإنسانية؛ تكاد تجمع على مجموعة من القيم والمشتركات، التي تسهم في ترقية الشعور السامي بأهمية حماية مكوّنات الجمال والحق والخير، ضمن منظومة أخلاقية عليا، تربي الذوق الرفيع عند الفرد برعاية المجتمع ومؤسساته الرسمية وغير الرسمية.
وبناءً على ذلك؛ يمكن القول؛ إن حماية الذوق العام؛ تعني بصيغة عمومية كل جهود تعزيز مكارم الأخلاق في التعامل مع الناس ومرافق حياتهم ومدارات تواصلهم وحركتهم، ويعني هذا الأخذ بكل ما يمكن أن يرتقي بالإحساس العام للجميع، ويكفل احترام حريات الآخرين، ومراعاة أحاسيسهم، وعدم التعدي بالقول والفعل على ما يمكن أن يخدش الذوق العام لهم، ومن ذلك احترام خصوصياتهم في المرافق العامة، وكافة الخدمات المقدمة بصفة جماهيرية عبر مختلف الوسائل السمعية والبصرية ).
* من مظاهر خدش الذوق العام وعدم احترام خصوصيات الآخرين ومشاعرهم، استغلال الحريات الشخصية في إقامة الحفلات ورفع الأصوات من المكبرات، وحتى مسجلات العربات في الطرقات ونحوها. أذكر أني كنت ذات صائفة في ضيافة صديق تونسي عزيز في داره بالمنزه السادس بتونس العاصمة. نعسنا في منتصف الليل، وعند الساعة السادسة صباحًا؛ صحوت على صوت صاخب جدًا لموسيقى غربية من دار مقابلة. شكوت لمضيفي هذا ونحن على مائدة الإفطار فقال: هذا من حقه وحق أي أحد بعد الساعة السادسة صباحًا إلى العاشرة مساء. قلت: كيف..؟ قال: هناك تنظيم يحدد أوقات رفع الصوت في الأحياء يعرفه الجميع ويراعيه الجميع. ابتسمت وقلت له: ولكن هذا الحق عندنا مباح دون قيد..!!
* في كل عصر ومصر؛ كان لا همّ للوعّاظ والأدباء والشعراء والفضلاء إلا إصلاح الأخلاق، وتقويم السلوك، وحفظ الآداب. فهذا أحمد شوقي قال:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وقال:
صلاح أمرك للأخلاق مرجعه
فقوّم النفس بالأخلاق تستقم
ثم قال:
إذا أصيب القوم في أخلاقهم
فأقم عليهم مأتماً وعويلاً
* هل نجح المصلحون في مصورهم وعبر عصورهم في إصلاح مجتمعاتهم..؟ الشاعر أحمد الصافي النجفي؛ عبّر عن خيبة الأمل في الإصلاح شعرًا ووعظًا فقال:
ألا تبّاً لمجتمع دنيءٍ
تكوّن جنسُهُ من كلِّ رِجس
أتيتُ لأنشر الإصلاح فيه
فلم أصلحه بل أفسدتُ نفسي