د. محمد بن إبراهيم الملحم
لاشك أن صناعة القرارات التعليمية (الإستراتيجية بخاصة) لها حساسيتها السياسية والاقتصادية بل حتى الاجتماعية فتأثير التعليم والمدرسة على الأسر والأفراد وحياتهم بل ونمط معيشتهم أحيانا بات له الأولوية وهو الأساس الذي يبدأ به أغلب الناس التخطيط ليومهم وحياتهم، ومن هنا فإن القرارات الراديكالية تصنع صدى اجتماعيا كبيرا وتجعل من الموضوع المادة الرئيسة للحديث والكتابات والتعليقات بكل وسائل التعبير المكتوبة والمنطوقة والمصورة، وهذه الحقيقة المعروفة هي ما تجعل كثيرا من القيادات التربوية يحجم عن التغيير المربك Disruptive Change حتى لو كان فيه خيرا للتعليم أونواتجه، والأمثلة كثيرة وتكاد تكون معروفة.
ويعتبر صدور مثل هذه القرارات عن مجالس أو لجان عليا أو بتوصية هيئات أو جمعيات مختصة معتبرة له دوره الكبير في تلطيف حدة الاعتراضات أو مقاومة التغيير، وغني عن القول إن ما يصدر من مجالس وهيئات لها قيمتها في تكوينها وتنظيمها وجودة أعضائها وقيمتهم العلمية والاجتماعية يرافقه غالبا حسن القرار مقارنة بالقرارات الفردية، وعندما أقول فردية فإني أعلم أنه لا يوجد مسؤول كبير يتفرد بصناعة القرار بقلمه ويسلمه للسكرتير ليوزع في تعميم اليوم التالي، هذا السيناريو غير موجود، ولكنه في الواقع حاصل معنى لا مبنى، فالمسؤول هو غالبا من يرأس اللجان (وهو من يكونها أو يوافق على أعضائها المقترحين!) ثم إذا اجتمعت اللجان أو المجالس (في وزارته أو هيئته التي يرأسها) فإنها ترفع إليه ما توصلت إليه ليقره أو يعيده إليهم للدراسة مرة أخرى على ضوء تعليقاته... في النهاية فإن القرارات مصطبغة كثيرا ومتلونه بفكر وشخصية وقناعات وخبرات ذلك المسؤول، ولذلك فإن إدراك الناس لهذه الحقيقة يقودهم إلى الثناء عليه باسمه إذا لمسوا فائدة القرار ومنفعته لهم، كما أنهم يهاجموه شخصيا إذا كان الأمر غير ذلك، هل علمتم أحدا يثني على أعضاء لجنة أو مجلس قام بصناعة قرار ما!
ولا بد أن نقرر حقيقة مهمة وهي أن موافقة المسؤول على قرار تمت دراسته بعمق وقدم بطريقة علمية متقنة من خبراء (تابعين له) فاهمين موثوقين هو تصرف حكيم وتوجه موفق مسدد يستحق صاحبه الثناء عليه، وبحسب ظروف صناعة القرار اليوم فإن هذا الثناء في حقيقته منصب على الثناء عليه في حسن اختيار أعضاء تلك اللجان التي أشارت بهذه المشورة وتوصلت إلى هذه النتيجة الموفقة فنجاحه نجاحان: نجاح في صناعة صُنّاع القرار ونجاح في صواب القرار وإمضائه له. وتأتي جرأة المسؤول أيضا لتكمل الحلقة، فكثير من قرارات التغيير (وكما أسلفت، نركز هنا على القرارات الإستراتيجية وشبه الإستراتيجية) تحتاج إلى جرأة وتمكن، فهناك إقناع أصحاب القرار الأعلى بمنفعة القرار الجديد وفائدته على المدى البعيد للبلاد (فهذه اللغة التي يتكلم بها أولئك) وهناك الجرأة في مواجهة تيارات المجتمع المواجهة للتغيير سواء المقاومة له اجتماعيا أو المناهضة له فكريا أو المشتتة له اقتصاديا فلكل نوع مصلحته الخاصة به، هذه الشجاعة هي ما يمز المسؤولين الذين تمكنوا من إحداث تغيير مربك (أي تغيير يحدث نقلة نوعية) بحيث حافظوا على ذلك التغيير وصانوه ودافعوا عنه، وهذه مشكلة غياب مؤسسات دعم القرار حيث يجد المسؤول نفسه وحيدا ليدافع عن توقيعه على ذلك التعميم وإقراره له، ولا شك أن وجود مؤسسات دعم القرار (المستقلة عن المسؤول) تخفف من الاعتماد الكلي على «شخص» المسؤول في هذه الزاوية وتجعله يعمل في مساحة أكثر أريحية لإدارة المؤسسة ليقدم عطاء أفضل إن كان قائدا متميزا في قيادتها بعيدا عن القرارات الإستراتيجية، كما يستمر في موقعه لأكبر مدة ممكنة ليخدم ذلك المجال لا أن تترقب يوما بعد يوم متى سيقدم قرارا غير موفق لتراه يمضي بعده مباشرة أو أن يتردد عن القرارات التغييرية الحقيقية فلا يحصل أي تقدم فيمضي أيضا!