سلمان بن محمد العُمري
مما يتميز به معالي الشيخ الدكتور/ صالح بن عبد الله بن حميد إمام وخطيب المسجد الحرام في خطبه حُسن انتقاء الموضوعات التي يتحدث بها على المنبر، مع ما حباه الله من علم شرعي، ودراية وخبرة في حسن العرض والوصول لقلب المتلقي قبل آذانه، وانتقاء المفردات المناسبة التي تساعد في بسط الموضوع.
في خطبة ماضية تناول معاليه موضوعاً مهماً؛ يستحق التناول والطرح اجتماعياً وأمنياً وشرعياً، كان مدارها الاهتمام بالوقت، وعن تأثير الأجهزة الذكية والتعلق بشبكة التواصل الاجتماعي. وكعادته - حفظه الله - أجاد وأفاد. وخطبة معاليه جديرة بالاستماع وإعادة القراءة.. وقد عدها أحد الأساتذة المختصين في الإعلام وثيقة دقيقة في أخلاقيات الإعلام الجديد لإمام الحرم الشيخ صالح بن حميد.
ولا بد لكل مستخدم لشبكات التواصل أن يستمع لها كي يطمئن ضميره، ويعرف إن كان فتح لنفسه باباً للخير والأجر، أم باباً للشر والإثم.. ومما جاء في خطبة الشيخ:
1. في مواسم الإجازات يحسن الحديث عن الوقت، في حفظه، وتنظيمه، وحسن الاستفادة منه.. فلقد قالوا: إن أعظم المقت إضاعة الوقت. وقالوا ليس الوقت من ذهب، بل هو أغلى من الذهب، وأغلى من كل جوهر نفيس.
2. الوقت هو الحياة، وهو العمر.. والإنسان يفدي عمره بكل غال وثمين. وقد قال الحكماء: «من أمضى يوماً من عمره في غير حق قضاه، أو فرض أداه، أو مجد أَصَّله، أو فعل حميد حَصَّله، أو علم اقتبسه، فقد ظلم نفسه، وعق يومه، وخان عمره».
3. وإن توزيع فرائض الإسلام على الأوقات يؤكد ضرورة حفظ الدقائق والساعات مع حركة الكون، ودوران الفلك.
4. وقد نقل عن بعض السلف أنه «كان يسمي الصلوات الخمس ميزان اليوم، ويوم الجمعةَ ميزان الأسبوع، وشهر رمضانَ ميزان العام، والحجَّ ميزان العمر». كل ذلك محاسبة دقيقة، وتنبيه حصيف؛ ليسلم له يومه، وأسبوعه، وعامه، وعمره.
5. إن الشبكة العنكبوتية وما تنتظمه من المواقع والمجموعات والأدوات، وما تستنبطه من معلومات، وما يتعلق بكل ذلك ويلتحق به، من أفضل ما أنتجته البشرية، لتقريب المسافات، وبناء العلاقات، وتوثيق الصلات، وضبط الأوقات، والاتصال بجميع الجهات، وثراء المعلومات.
6. من فتح له حسابًا في هذه الأدوات والشبكات فقد فتح على نفسه باب المحاسبة.. وليستحضر عموم هذه الآية الكريمة:
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) سورة الكهف.
7. المسلم - رعاكم الله - محاسب على أوقاته، وعلى آرائه، ووسائله، ومشاركاته، وما رأته عيناه، وما سمعته أذناه، وما عملته يداه.
فحاسب نفسك - يا عبد الله - ولا تكثر التنقل من حساب فلان إلى حساب فلان، ومن موقع فلان إلى موقع فلان، ولا تضيع وقتك، واحرص على ما ينفعك، ودع عنك الشتات.
8. أرأيت كيف يكون الابتلاء وصرف الأوقات حينما يكون أول ما يفتح عليه المرء عينيه في يومه هو هذه الأدوات، وآخرُ ما يغمض عليه قبل النوم هو هذه المواقع؟!
9. وكم من هؤلاء المبتلين يخدع نفسه في مواقع فيها قرآن كريم، وحديث شريف، وكلام لأهل العلم والاختصاص مفيد، وحكم، وتوجيهات، ولكنه لم يفتحها، وربما كان الرابط معطوبًا وهو لا يدري.
ومن عظيم الابتلاء أن يتحدث متحدث عن أخلاقيات لا يفعلها، أو ينهى عن ممنوعات وهو يرتكبها.
10. التعلق الدائم بهذه الأجهزة أثر تأثيرًا كبيرًا على العلاقات الاجتماعية، والتواصل المثمر مع الأهل، والأقارب، وكلِّ من تُطلَبُ مواصلته، حتى انقلبت في كثير منها إلى أدوات تقاطع لا أدوات تواصل.
11. عنوان صفحات الرجل، وشعارُ موقعه، ونغماتُ هاتفه مئنة من عقله.
12. وقَلَّ من دخل في معارك كلامية، وحوارات شبكية، أن يفلح. ونعوذ بالله من علم يفضي إلى الجهل، ومن حوار ينتهي إلى حمق، ومن جدل يوقع في سفه.. «ولن تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه».
وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا* اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (13 - 14) سورة الإسراء.
13. الوقت هو الحياة، وهو العمر.. فهل هان على المرء عمره وحياته؟!
14. لقد ظهر في هذه المواقع والأدوات الرويبضة، وهو الرجل التافه يتكلم في أمور العامة والناس.. لا قيمة له لا في العلم ولا في الحلم.. ثم يصبح لهم من الأتباع والمتابعين والمعجبين ما تزداد به الفتنة، وتضيع فيه أقدار الرجال، ومقامات القامات.
15. إن طرق تعامل كثير من الناس مع وسائل الاتصال ووسائله ينبغي أن تكون أكثر وعيًا وحكمة.. والتعلق الدائم بهذه الأجهزة أدى إلى إهمال من لا يجوز إهماله، والإساءة إلى مشاعر من يجب احترام مشاعره.
16. ولا يحفظ الوقت تمام الحفظ إلا التنظيمُ، وحسنُ الترتيب، فلا يطغى غير المهم على المهم، ولا المهم على الأهم. ومعلوم أن الوقت لا يتسع لجميع الأشغال. ومن شغل نفسه بغير المهم ضيع المهم، وفوّت الأهم.
وأختم بحكمة قالها الشيخ في خطبته، تُكتب بماء الذهب، قال فيها:
من غرّد في كلّ واد فقد سفِهَ نفسه، وأشغل العباد!