د. جاسر الحربش
لدينا سعوديون أثرياء يقضون معظم شهور السنة في الدول الغربية أو تركيا وربما في البوسنة. هم أثرياء يكسبون أموالهم هنا ويصرفونها في الخارج، ليس في الإجازة السنوية وإنما أغلب أيام السنة. هؤلاء لا ينطبق عليهم معنى الهروب المقصود في العنوان، لكنهم متسببون، حبلهم السري في البلد وصرفهم الأموال في الخارج، وربما يملك بعضهم عدة جنسيات. هذه الحالات تستوجب تفكيك الأسباب الصحية والمالية والاجتماعية لكل حالة على حدة وتقييمها بناءً على ذلك، لمعرفة عوائد استثماراتهم الإنتاجية لبلدهم الأصلي إن وجدت، مقارنة بها في بلد الإقامة.
الهروب المقصود في العنوان هو الهروب من الفقر والحروب والفساد والدكتاتورية وانهيار القيمة الشرائية للعملة المحلية. في العشرين سنة الأخيرة تزايدت أعداد الهاربين الفقراء من إفريقيا والشرق الأوسط وباكستان وأفغانستان وإيران عبر المتوسط إلى أوروبا. لا يوجد ضمن هذا النوع أحد يهرب من الدول الخليجية أو الصين أو كوريا الجنوبية كأمثلة، ولم يعد أحد يهرب من دولة رواندا الأفريقية في السنوات العشر الأخيرة. كانت رواندا من أكثر الدول فشلاً في إفريقيا للأسباب المذكورة أعلاه للهروب، ثم تبدلت الأحوال تماماً بعد أن تولت شؤونها حكومة وطنية تطبق إدارة حقوقية وعلمية ناجحة. اختفت البطالة والرشوة والأحياء القذرة والمتسولون من الشوارع ولم يعد المواطن الرواندي يهرب من بلده.
المثال الرواندي يقدم الدليل المقنع على أن المجتمعات نفسها ليست أسباب فشل الدول وإنما نوعية الحكومات المسؤولة.
بصرف النظر عن عواطف شاه إيران الراحل تجاه العرب، لكن لمتطلبات الحقيقة لم تكن توجد في أيامه حالات هروب جماعية والعملة الإيرانية كانت مستقرة وصلبة. حالة الهروب آنذاك من إيران كانت لأقليات مؤدلجة سياسياً باتجاه الكتلة الشيوعية، أو هروب مناضلين حقوقيين إلى الدول الغربية. السبب هو أن حكم الشاه كان يجمع بين متناقضين غطت ميزات أحدهما على نقائص الآخر. دكتاتورية الشاه البوليسية غطت عليها النهضة العلمية والتحديث. العناية الصحية ومخرجات التعليم أيام الشاه كانت أفضل من كل دول الجوار ومن الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية، ولكن الدكتاتورية الأمنية أسقطت الشاه.
بعد أربعة عقود من استلام الولي الفقيه للحكم في إيران، ما الذي يجري الآن هناك؟
في إيران الحالية يتصاعد انتشار البطالة عمودياً وتنهار العملة بسرعة تخطف أنفاس المصرفيين (أكثر من 50 في المئة في عشرة شهور)، ويساق الشباب إلى ميادين الحروب خارج إيران بالقوة الجبرية، وأصبح الهروب الكبير بطريقة التسلل عبر الحدود التركية نحو الغرب يكلف إما الحياة أو عشرة آلاف دولار للفرد يدفعها للمهربين.
لدينا هنا دليل آخر على ما تفعله الحكومة الفاشلة بشعب قابل للتحديث. مع حكم الولي الفقيه تحولت إيران إلى رؤية واحدة مفروضة على الجميع، ومن يرفض يتكلف الحرس الثوري بتصفيته. إيران كجغرافيا وحضارة ومهارات بلد غني، وعلى الرغم من ذلك تنهار العملة وتنتشر البطالة ويهرب الناس في جنح الظلام عبر الحدود. شرعية الحكم في إيران تقترب من نهايتها، ومما يضمن ذلك مظاهرات الجوع وانهيار العملة ودفع المواطن مدخراته ثمناً للوصول إلى معسكرات اللاجئين في الغرب.
العدوى الإيرانية انتشرت في كل بلد عربي نشرت فيه إيران الخمينية العدوى بل وسبقت إيران إلى نفس المصير الفاشل.