«الجزيرة» - متابعة:
وفي الفصل الخامس من الكتاب يتناول د. سليمان أبا الخيل، عناية خادم الحرمين الشريفين بتحقيق الأمن العقدي والفكري، وهي من أبرز الجهود الجليلة لقائد هذه البلاد، لقد ورَّث الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن -رحمه الله- أبناءه خير ما أورث والدٌ ولده، وذلك أن هذا الإرث هو ما وصى به الأنبياء عليهم السلام، كما قال تعالى مخبراً عن نبيه يعقوب عليه السلام: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.
وخادم الحرمين الشريفين - أيده الله - من هؤلاء الوراث الذين تمسكوا بعهد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وجدده في البلاد المباركة الوالد المؤسس الصالح الناصح.
وسبق لي بفضل الله أن شاركت ببحث عنوانه: «عناية الملك عبد العزيز بتحقيق الأمن العقدي والفكري» اقتصرت فيه على أمرين اثنين في عناية الملك عبد العزيز بتحقيق الأمن العقدي والفكري:
الأول: العناية بالعقيدة السلفية ومنع ما يخالفها.
الثاني: الاهتمام بجمع كلمة المسلمين على الكتاب والسُّنَّة، وتوحيد صفوفهم على إمامٍ واحدٍ، وعدم تفرقهم واختلافهم وتحزبهم.
وسأذكر هنا تلخيصاً له؛ ليعرف الناظر فيه مدى تأثر خادم الحرمين الشريفين بأبيه في هذا الجانب.
فالأمن العقدي، عُنِي به الملك عبد العزيز -رحمه الله- من خلال الجوانب التالية:
الجانب الأول: الدعوة للتوحيد الخالص لله سبحانه وتعالى:
إن أهم ما دعا إليه الملك عبد العزيز وآباؤه من قبله الدعوة لتوحيد الله وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له، ولقد اهتم بذلك اهتماماً كبيراً من أجل إنقاذ الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وهذا يمثله القسم العظيم الذي أقسم عليه وبَرَّ فيه حينما قال لما دخل الشريف خالد بن لؤي مجلس الملك عبد العزيز عقب إخماد فتنة فيصل الدويش، وتوجه الملك عبد العزيز إليه وإلى من في المجلس: اسمع يا خالد، اسمعوا يا إخوان: أنا عندي أمران لا أتهاون في شيءٍ منهما، ولا أتوانى في القضاء على كل من يحاول النيل منهما ولو بشعرة:
الأول: كلمة التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله، اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه، إني والله وبالله وتالله أقدم دمي ودم أولادي وكل آل سعود فداءً لهذه الكلمة، لا أضن به.
والثاني: هذا الملك الذي جمع به شمل العرب بعد التفرقة، وأعزهم بعد الذلة، وكثرهم بعد القلة، فإني كذلك لا أدخر قطرة من دمي في سبيل الذود عن حوضه.
واستشعر الملك عبد العزيز نعمة الله عليه وسببها الحقيقي وهو الأخذ بالتوحيد والتمسك فقال: «إننا لا تهمنا الأسماء والألقاب، وإنما يهمنا القيام بحق واجب كلمة التوحيد».
ويقول: «إن المسلمين في خيرٍ ما داموا على كتاب الله، وسُنَّة رسوله، وما هم ببالغين سعادة الدارين إلا بكلمة التوحيد الخالصة».
ويقول: «هذه هي العقيدة التي قام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب يدعو إليها، وهذه هي عقيدتنا، وهي عقيدةٌ مبنيةٌ على توحيد الله -عزّ وجل- من كل شائبة، منزهة من كل بدعة، فعقيدة التوحيد هذه هي التي ندعو إليها، وهي التي تنجينا مما نحن فيه من محنٍ وأوصاب».
ويقول: «نصرنا الله بقوة التوحيد الذي في القلوب، والإيمان الذي في الصدور».
ويقول: «يعلم الله أن التوحيد لم يملك علينا عظامنا وأجسامنا فحسب، بل ملك علينا قلوبنا وجوارحنا».
ويقول: «لم نتخذ التوحيد آلةً لقضاء مآرب شخصية، أو لجر مغنم، وإنما تمسكنا به عن عقيدةٍ وإيمانٍ قوي، ولنجعل كلمة الله هي العليا».
ويقول: «إني أجاهد لإعلاء كلمة التوحيد، والحرص عليها، وأحب أن أراها قائمة، ولو على يد أعدائي، وإن تمت على يدي فذلك فضل الله».
ويقول: «والله إني لا أحب الملك وأبهته، ولا أبغي إلا مرضاة الله، والدعوة إلى التوحيد».
ويقول: «أنا وحكومتي ندعو إلى عبادة الله».
ويقول: «واجب المسلم أن يقوم بالدعوة إلى عبادة الله عبادةً خالصة، وأن يسعى لإصلاح شؤون المسلمين إصلاحاً حقيقيّاً لا نظريّاً».
وغيرها من نصوصه -رحمه الله- كثيرة جداً في حرصه ودعوته للتوحيد، والتنبيه عليه في كل مناسبة تعن له رحمه الله.
وعن إيمان الملك عبد العزيز -رحمه الله- وعمقه وأنه كان الأساس الذي انطلق منه -رحمه الله- في جميع أموره، يقول خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله-: «إن أهم خصلة في الملك عبد العزيز هي إيمانه بالله قبل كل شيء».
يؤكد ذلك سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ بقوله: «إن عبد العزيز رجل عقيدة».
وهذا الجانب العظيم قد تمسك به خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله ورعاه-، ففي خطاباته كلها الداخلية والخارجية، نجده يعلن ذلك على رؤوس الأشهاد، ويعده مفخرة هذه البلاد، وموروثها الذي لا ينبغي أن يساومها أحد عليه، وأن أسس هذه البلاد قد قامت عليه.
كما أكد ذلك تطبيقاً عملياً في البلاد التي يقودها، فهذه الدعوة إلى هذه العقيدة تقوم به كل مؤسسات الدولة الدينية والثقافية والإعلامية.
فوزارة الشؤون الإسلامية بمراكز الدعوة في الداخل ومراكز الدعوة في الخارج قائمة على هذا، وتدعو إليه.
والجامعات الإسلامية كجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، والجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، ترسلان الدعاة إلى الله تعالى، وتقدمان الدعاة لأساطيل الدعوة في خارج المملكة، بجودةٍ عالية، وانتقاءٍ للدعاة محكم.
ومن آخر إنجازاته رعاه الله تعالى ووفقه وسدده وحفظه موافقته على المؤتمر العالمي الذي رفعته جامعة الإمام إلى مقامه الكريم بعنوان: «جهود المملكة العربية السعودية في ترسيخ وتأصيل منهج أهل السُّنَّة والجماعة والدعوة إليه ودعم قضايا الأمتين العربية والإسلامية»، كما أن زيارته الأخيرة لجمهورية إندونيسيا أثمرت نتائج طيبة، كان منها افتتاح معاهد في عددٍ من الولايات، وإنشاء معاهد جديدة، كلها تصب في جانب الدعوة إلى التوحيد والمحافظة على عقيدة المسلمين.
الجانب الثاني: المحافظة على العقيدة السلفية، وعدم السماح بمخالفتها:
إن العقيدة السلفية هي أساس الدين، وبتحقيقها يتحقق الأمن العقدي فلا يتطرق للعقيدة النقية التي كان عليها نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، والتي دعا إليها ما يخالفها أو يقدح فيها.
والدعوة السلفية هي دعوة الكتاب والسُّنَّة، والدين الصحيح والإسلام النقي، وهي اتباع سبيل المؤمنين من السلف الصالح من أصحاب النبي والتابعين لهم بإحسان بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، مع جهاد النفس على العمل بما يدعو إليه.
أو هي: الدعوة إلى الكتاب والسُّنَّة وما كان عليه السلف الصالح من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم والتابعين لهم بإحسان وأتباعهم وأئمة الدين ممن شُهِد لهم بالإمامة في الدين، وتلقى الناس كلامهم خلفاً عن سلف.
ولقد كان الملك عبد العزيز -رحمه الله- من المحافظين على عقيدة السلف، والداعين لها، والآمرين بها، فقد نشرها في ربوع البلاد بين رعيته، ونهى عن مخالفتها أو السماح بما يخدشها.
يقول رحمه الله: «إنني رجل سلفي، وعقيدتي هي السلفية».
ويقول: «يقولون إننا: (وهابيون)، والحقيقة أننا سلفيون، محافظون على ديننا».
ويقول: «أنا داعية لعقيدة السلف الصالح، وعقيدة السلف الصالح هي التمسك بكتاب الله وسنة رسوله، وما جاء عن الخلفاء الراشدين».
ويقول: «الإسلام قد أمرنا بأخذ ما يفيدنا على شرط ألا يفسد علينا عقائدنا وشيمنا».
ويقول: «المسلمون لا يعوزهم التجديد، وإنما يعوزهم العودة إلى ما كان عليه السلف الصالح».
ويقول: «إن العقيدة الصحيحة هي أساس الفلاح».
وقد اجتهد -رحمه الله- في الدعوة لهذه العقيدة السلفية، بل إنه -رحمه الله- نهى وحذَّر من مخالفتها، ورتب الجزاء على ذلك:
يقول رحمه الله: «من رأيت منه زيغاً عن العقيدة الإسلامية فليس له من الجزاء إلا أشده، ومن العقوبة إلا أعظمها».
ويقول: «أسعى بإلزام من أطاعني بما جاء في كتاب الله وسُنَّة رسوله، ومذهب السلف الصالح بيدي، وقلبي، ولساني على قدر الاستطاعة».
وخادم الحرمين الشريفين على هذا، يقول حفظه الله بمناسبة أداء الوزراء القسم أمامه: «الحمد لله هذه الدولة منذ وحدها الملك عبد العزيز إلى عهدها الجديد وهي كما ترون في أمنٍ واستقرار، وهي منذ أسسها محمد بن سعود قامت على الإسلام والعقيدة الإسلامية، ونسأل الله عزّ وجل أن يرزقنا شكر نعمته وأن يوفقنا جميعاً لخدمة ديننا وبلادنا وشعبنا».
ويقول في خطابه للمواطنين: «لقد أسس الملك عبد العزيز -رحمه الله- وأبناء هذه البلاد دعائم هذه الدولة، وحققوا وحدتها على هديٍ من التمسك بالشرع الحنيف واتباع سنة خير المرسلين، وخلال العقود التي تلت مرحلة التأسيس إلى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز رحمه الله؛ ودولتكم ولله الحمد والمنة تسير على خطى النمو والتطور بكل ثباتٍ مع التمسك بعقيدتها الصافية، والمحافظة على أصالة هذا المجتمع وثوابته»).
أما الفصل السادس فقد خصصه المؤلف للحديث عن: خادم الحرمين الشريفين والحوار، يقول د.أبا الخيل في هذا الشأن: (لقد كان العلماء- رحمهم الله- يدونون الفوائد في مجالس العلماء والخلفاء، كما فعل ذلك الزجاجي -رحمه الله- في كتابه الماتع «مجالس العلماء»، ومع اتساع مجالات الحياة، واشتغال كثير من الناس عن العلم، وتحول الطرح في المجالس إلى موضوعات لا تهم سوى أفراد قلائل، فإنه كادت هذه السنة العلمائية تهجر، غير أن مجالس «سلمان بن عبد العزيز» تأبى هذا الهجران، وإن من يتشرف بالحضور في مجالس خادم الحرمين الشريفين يحفظه الله، يجد مجلساً حوارياً، قائماً على الحرية المنضبطة بضوابط الشرع، من شاء أن يسأل سأل، ومن استشكل شيئاً طرحه، لهذا نجد أن من يكون همه الحوار والمناقشة والوصول إلى الحق، يجدها في هذه المجالس.
و سلمان بن عبد العزيز ليس ممن يتمعر وجهه إذا سئل عن شيء، ولم يكن يخفي شيئاً يرى حاجة السائل إليه، بل إذا رآه يحتاج إلى زيادةٍ في الجواب وإن لم يسأل عنها السائل، أفاده بها.
وسأنقل هنا مجلساً من المجالس الحوارية التي أجريت معه؛ ليفيد القارئ ويتمتع ويلذ سمعه وبصره وفؤاده بها؛ وليعلم أن المنهج السلماني منهج حواري، ليس قائماً على استبداد، أو فرض رأي دون إقناع.
التقى الخير والحزم والعزم مع وفد طلابي من جامعة هارفارد الأمريكية، ومعهم بروفيسور من الجامعة، وطرحوا عليه - حفظه الله - أسئلة عن الحكم والمجتمع والدين وغير ذلك، فكانت إجاباته شفاء عيٍّ لمن سأل.
قال البروفسور الذي يقود المجموعة الطلابية من جامعة هارفارد: «يسرني أن أتكلم نيابةً عن نخبة من طلبة هارفارد يزورونكم في صحبتي، وهم نسيجٌ متنوعٌ من الولايات المتحدة الأميركية.. وأميركا الجنوبية.. وأوروبا.. وهذه (النخبة الدولية) من الطلاب يدرسون الأعمال، وسوف يصبحون في المستقبل في مواقع القرار في بلادهم، ولذلك جاءوا لتخصيب معرفتهم بالتعرف على صنْاع القرار من أمثالكم وبطريقة مباشرة».
* وكانت بداية الأسئلة الحوارية سؤالاً من طالب، إذ قال: «لدي سؤال وهو: إن هناك موجة من التطرف في العالم العربي، وأود أن أعرف ما جهود المملكة العربية السعودية لمواجهة الإرهاب؟».
أجاب: «نحن في طليعة دول العالم التي واجهت الإرهاب بطرقٍ وتدابير عدة، منها: تدبير الحزم والقوة.. وتدبير تحكيم القضاء.. وتدبير المكافحة الفكرية والإعلامية. وإننا نبذل كل جهد مستطاع لاجتثاث الإرهاب بكل الوسائل المتاحة والفاعلة.. وعلى سبيل المثال: هناك متخصصون يلتقون المعتقلين ويتحدثون إليهم، في محاولة لإقناعهم بالعودة إلى الطريق الصواب.. وقد أحرزنا نجاحاً ملحوظاً على هذه المستويات جميعاً.
وفي سياق جهود مكافحة الإرهاب بجدٍّ ومسؤولية، يمكنكم أن تعرفوا مثلاً أنه منذ سنتين عُقِد في المملكة العربية السعودية مؤتمرٌ عالميٌّ تركز على مكافحة الإرهاب، وقد عقد المؤتمر في الرياض برعاية الملك عبد الله بن عبد العزيز، كما يمكن أن تعرفوا أن لدينا (مركزاً دوليّاً) لمكافحة الإرهاب، وهو مركز نأمل من دول العالم كافة أن تتعاون معنا على تعزيز نشاطه متعدد المضامين والصور، حيث إن المركز يصب في حماية الإنسانية كلها من شرور الإرهاب وآثاره المدمرة.
وأحب أن أقول بصراحة: إننا ندين الأعمال الإرهابية كلها ونستهجنها؛ لأن الإرهاب يسيء إلى الإسلام.. وقد صدرت بيانات من كبار علماء المملكة ومشايخها تعتبر الإرهاب جريمة كبيرة ضد الإسلام نفسه، بما في ذلك الإرهاب الذي وقع في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) في واشنطن ونيويورك.
وأزيدكم صراحةً ووضوحاً فأقول: نحن نؤمن بأن كل إنسان حر في عقيدته لا يكره قَطُّ على عقيدةٍ لا يريدها، وهناك نصوصٌ كثيرةٌ حول هذه المسألة، كما أن هناك آية قرآنية تقول: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البَقَرَة: 285] ، فهذه الآية توجب على المسلمين الإيمان بالكتب والرسل السابقين وألاَّ يفرقوا بين رسل الله بمن في ذلك موسى بن عمران وعيسى ابن مريم عليهما السلام.
المشكلة ليست في المصدر ولا في المنهج، إنما المشكلة في (المتطرفين) الذين يفهمون الدين خطأ، ويطبقونه خطأ، سواء أكان هؤلاء المتطرفون مسلمين أم مسيحيين أم يهوداً، وأقول لكم: إنكم سوف تعانون في يوم من الأيام من المتطرفين في المسيحية واليهودية، فهؤلاء المتطرفون من مسلمين ويهود ومسيحيين يضرون بالبشرية كلها من حيث إنهم يجعلون العلاقة بين الأديان والأمم علاقات توتر ومشاحنات وصراع وعنف، بينما أرادها الله علاقات تعارف وتراحم وسلام.
وأعود فأؤكد: إن هؤلاء الإرهابيين أساءوا إلى الإسلام أكبر إساءة.
أنا مسلم.. وأؤمن بأن الإسلام هو دين الوسطية، فلا تطرف إلى اليمين، ولا إلى اليسار، والإسلام كذلك دين رحمة ومحبة، والرسول- صلى الله عليه وسلم- عندما اضطهده قومه أمر الصحابة المؤمنين به بالهجرة إلى الحبشة التي كان يحكمها النجاشي، وكان يدين بالنصرانية وقد عُرِف بالعدل فاستضاف النجاشي أصحاب محمد وأكرمهم.
والتاريخ الموثَّق يخبرنا أن رسول الإسلام تحالف مع اليهود في المدينة وتعاون معهم من خلال دستور مكتوب عرف - تاريخيّاً - بـ(وثيقة المدينة).. والخلل في العلاقة جاء من اليهود الذين نقضوا الوثيقة، ولم يلتزموا ببنودها.
نحن ضد أي تعصب، وأنتم تتذكرون اليسار الشيوعي الذي كان يقوم بجرائم إرهابية، وتتذكرون أن أعمالاً إرهابية حدثت في اليابان وألمانيا ودول أخرى.
أنا لا أدافع عن إرهابيين يحملون أسماء إسلامية، فأنا مصنَّف عدواً لديهم، ولكن أريد التنبيه إلى أنكم سترون متطرفين إرهابيين من أديانٍ أخرى، ومن حقكم علينا كشباب وصغار السن أن نوجه انتباهكم إلى هذه المعضلة المشتركة».
* تدخل البروفسور فقال: «إن كلامكم يتوافق تماماً مع أفكار هذه النخبة من شباب هارفارد.. ولدي سؤال من الجنس الناعم يقول: ما الخطوات التي اتخذتها المملكة لضمان حقوق المرأة في بلادكم؟».
قال: «الإسلام هو منهاج المملكة، وهذا المنهاج يضمن حقوق المرأة: حق الحياة وحق التعليم وحق الكرامة وحتى العمل، وهي حرة في مالها لا يحق لزوجها أو غيره أن يسلبها هذا الحق بحالٍ من الأحوال، وهي حرة في مسألة اختيار زوجها، لا يحق لأحدٍ أن يكرهها على أن تتزوج بمن لا تحب ولا تريد. هذه كلها حقوق كفلها الإسلام لها، ولكنني أريد أن أعرف ما المقصود بالضبط من السؤال.. هل هو حقوق الانتخاب؟».
* البروفسور: «نعم».
- «نحن لنا ظروف اجتماعية خاصة، وأريد أن أسألك - في هذه النقطة - سؤالاً واحداً محدداً وهو: الولايات المتحدة وهي دولة علمانية، أقصد أنها لم تقم على أساس ديني وإن كان المسيحيون فيها هم غالبية الشعب. وسؤالي هو: هل الدين المسيحي يمنع إعطاء المرأة حقها؟ متى أعطيت المرأة حقها في هذا المجال؟».
* البروفسور: «في وقتٍ متأخر».
- «أنا سمعت - ولم أذهب إلى أميركا في ذلك الوقت - أن السود لم يكن يسمح لهم بدخول بعض المطاعم والمرافق الأخرى! لماذا لم تعطهم بلادكم حقوقهم في المساواة في بداية القرن العشرين؟ قد يقال: ربما لو تم ذلك لحدثت حرب أهلية، إنما ما قصدته لا يعني بحالٍ من الأحوال المقارنة ولا الرغبة في تأخير الحقوق، وإنما المقصود هو: تقدير الظروف الاجتماعية وشبكة الأعراف والتقاليد التي ينبغي أن يتم التطور من خلالها وبمعالجة عاقلة لها: لا بالقفز المتهور عليها.
إن المرأة لدينا تعمل في كل المجالات: في الإدارة والطب والهندسة والتعليم والتجارة، وغير ذلك من المجالات والحقول، وهذه وظائف وأعمال كانت ثمرة طيبة لـ(التطور المتدرج الهادئ)، وفي ضوء هذه التجربة الناجحة أقول: إنه ليس من المستحسن أن تقوم دولة فتصدم شعبها بقرارات ذات حساسية معينة.
لعلكم تعلمون أنه قبل 50 سنة لم يكن لدينا مدارس بنات ولا بنية تحتية ولا أي مظهر من مظاهر الحضارة والتطور الذي تشاهدونه الآن، أما الآن فلدينا نساء مديرات لجامعات، رغم أنه كانت هناك معارضة شديدة لتعليم البنات، وكانت الوفود تأتي من كل أنحاء المملكة ترفض فتح مدارس للبنات، لكن اليوم يتسابق الناس في إرسال بناتهم للمدارس والجامعات.
إن ما أريد أن أقوله هو: إن التطور الطبيعي الهادئ المتتابع هو الممكن، وهو الأفضل في الوقت نفسه. نعم، من التقدم الصحيح الثابت الخطى أن يأتي كل شيء في وقته المناسب، بدليل أن مجتمعنا أصبح اليوم يتقبل أشياء كثيرة مفيدة لم يتقبلها قبل سنوات، ومع ذلك فإن الدولة حريصة على قيادة التطور بمعدلات تحقق المصلحة من جهة وتتفادى الاضطراب والانتكاس من جهة أخرى.
واسمحوا لي بأن أختم هذا الموضوع بالمثال الآتي الذي هو على مكتبي الآن:
إن الحقوق الشخصية للمرأة محفوظة، ولدي اليوم أوراق تتعلق بامرأة تريد أن تتزوج بشخصٍ ما، ولكن أهلها يرفضون ذلك، وقد عرضت هذه القضية على المحكمة وأحالها القاضي إلي - اليوم - بخيارين: إما موافقة أهلها وإما أن يزوجها القاضي بمن تريد: على الرغم منهم، وتمكيناً لها من ممارسة حقها الذي كفلته لها الشريعة الإسلامية».
* البروفسور: «لدينا سؤال عن تيار الإصلاح، فقد سمع الطلاب كثيراً المثل الذي يقول: (في التأني السلامة)، وهذا يعني أن هناك اتجاهاً ينادي بالإصلاح، وتياراً آخر يدعو إلى الصبر».
- «ما الإصلاح؟ يجب تحديد المعنى أولاً، فكلٌّ له رأيه في هذه المسألة، وما يعتقده بعضهم إصلاحاً يعتبره البعض الآخر إفساداً.
ويهمني مسؤولية الدولة في هذا الأمر، ومسؤولية الدولة هي المزج بين التيارين واستخلاص الأصلح من كلٍّ منهما، وأنا لست منزعجاً من ذلك، فالدولة منذ التأسيس تسعى إلى الأفضل اجتماعيّاً وفكريّاً وسياسيّاً وإداريّاً وحضاريّاً، أنا لست من أنصار (الصبر الزائد)، ولا من أنصار (العجلة الزائدة).
إن الخير والمصلحة والحكمة تكمن في (خيارٍ وسط) وهو: التطوير النشط الدائم من دون جمودٍ ولا تهور، من دون بطءٍ مميت ولا سرعةٍ قاتلة.
وقلت منذ قليل: إن لكل دولة خصائصها وظروفها في المسارات الاجتماعية، وهذا ينطبق على الخيارات والوسائل السياسية أيضاً، ولا بد من مواجهة هذه الأمور بوضوحٍ شديدٍ في زمنٍ كثرت فيه شعارات الديمقراطية، وأنا لست ضد الديمقراطية التي يطبقها الآخرون، فمن خصائص السيادة والاستقلال لكل دولة أن تختار الصيغة السياسية التي تدير بها شؤونها، كما نص على ذلك ميثاق الأمم المتحدة، ولكن الديمقراطية بمفهومٍ معينٍ ووحيدٍ لها ليست (وصفة جاهزة) تصلح لكل مجتمع ولكل دولة، مثال ذلك أن الديمقراطية بمفهومها الغربي تعني - بالضرورة - تأسيس أحزاب متعددة. وهذا نمط سياسي اجتماعي لا يصلح لنسيجنا الاجتماعي.
أولاً: لأن هناك عيوباً جذرية ينطوي عليها النظام الحزبي، وأهله أنفسهم يشْكُون منه.
ثانياً: لأن هذه الحزبيات من شأنها أن تؤثر سلباً في الوحدة الوطنية التي هي أعز ما نملك بعد توحيد الله عزّ وجل. والبديل المناسب للديمقراطية - بمفهومها ذاك - ليس الديكتاتورية، فالقرآن قد ندد بالاستبداد في كل صوره، وإنما البديل المناسب هو (الشورى).
وفي الفصل السابع من الكتاب يستعرض د.أبا الخيل أبرز كلمات خادم الحرمين الشريفين، ويؤكد أن: (العلماء مازالوا يجمعون كلمات الملوك والخلفاء وذوي الشرف والعلم؛ لما تحمله في الغالب من معانٍ اشتملت على الخبرة والحكمة التي عركتهم السنين، ولا ريب أن من كانت كلماتهم مبنية على كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله، فإنها بلا ريب ستكون نبراساً لمن بعدهم.
وحين ننظر في كلمات ملوك هذه المملكة المباركين الذين تولوا دفة قيادة هذا البلد المبارك، فإننا نجدها من هذا القبيل، وخادم الحرمين الشريفين شاهدٌ واطلع عن كثب على سياسة والده المؤسس وأبنائه البررة من بعدهم، وكان نعم المستشار لهم، المستفيد من تجاربهم وخبراتهم، فقد كان قريباً جداً ممن تَقدَّمهُ من الملوك).
أما الفصل الثامن فيطرح د,أبا الخيل موضوعاً مهماً وهو أن الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله-، لم تشغله الأعمال والمهمات والمناصب عن المتابعة والكتابة والاطلاع، ليؤكد أن لمقالات خادم الحرمين الشريفين ميزات عديدة من أبرزها التالي:
1 - العمق العلمي، الذي جمع بين كثرة الاطلاع، والخبرة، والممارسة العملية، واللقاءات والمشاهدات.
2 - الإضافة العلمية، التي تفيد القارئ، فهي مدللة، معللة، ليست مجرد كلام بلا حقائق، بل يحيل القارئ والمستمع والمشاهد إلى ما يجعله مطمئناً على دقة المعلومة المتناهية.
3 - الأسلوب العلمي الرصين.
4 - مع كونه أسلوباً علميّاً إلا أنه ممتع في الوقت نفسه، ولم يكن جافاً، يمل القارئ والمستمع، وإنما هو أسلوبٌ يشد ويأخذ باللب.
أما الفصل التاسع والأخير من هذا البحث فقد خصصه د. سليمان أبا الخيل، للمقالات التي كتبها عن خادم الحرمين الشريفين، يقول في مطلع هذا الفصل: أحرص أشد الحرص على بيان منزلة هذه الولاية الراشدة، ومنَّ الله تعالى علي بالكتابة في ولاة الأمر فيها، وذكرت شيئاً - وهو نزرٌ يسيرٌ بجانب ما قدموا - من فضلهم وسيرهم، وكان لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز - يحفظه الله - نصيبٌ وافر، منذ أن كان أميراً لمنطقة الرياض، وشرفت بمشاركته في بعض الأعمال، وحظيت منه بالتوجيه الأبوي، المبني على الحكمة والعلم والنصح، وهنا أجمع هذه المقالات في هذا الكتاب؛ ليطلع عليها من شاء الله أن يطلع.
نسأل الله أن يحفظ خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز -وفقهما الله-، وأن يجزي معالي الشيخ أد.سليمان بن عبدالله أبا الخيل خير الجزاء، نظير هذا العمل الجليل الذي يتناول جوانب مضيئة من سيرة قائد الأمة الملك سلمان بن عبدالعزيز، ونسأل الله أن ينفع بهذا الإنجاز العلمي المتميز إنه سميع مجيب.