د. محمد عبدالله العوين
لم أجد صفة أقبح من «الخيانة» بأطيافها السوداء المتعددة؛ خيانة الأوطان وخيانة رباط «الزوجية» المقدس وخيانة «الصداقة» وخيانة الأمانة.
كم هي قاسية على النفس، مدمرة دامية، محطمة موجعة، سارقة البهجة، متلفة الأعصاب حين تصدم القلب من قريب لا يرجى منه إلا الخير ولا يؤمل فيه إلا الصدق.
لماذا؟!
لأن القريب محل الثقة وموطن الأسرار ومرتجى النصح ومحضن الاطمئنان لا محل للشك ولا للريبة فيه؛ ولذلك تكون الصدمة فيه جارحة حد النزف لا تماثلها خيانة البعيد لو خان ولا غدر المجهول لو غدر؛ وقد وصف ذلك طرفة بن العبد بعد أن آلمه اغتصاب عميه ماله الذي ورثه من أبيه وهو طفل ولم تستطع أمه «وردة بنت عبد المسيح» كفهما عن ذلك؛ فقال حين بلغ سن الرشد وأدرك مرحلة النضج واكتملت له أدواته الفنية واستوت له تجربته الشعرية العظيمة المتفردة في معلقته الخالدة التي بدأها بمطلع عاطفي طللي معتاد:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
وبعد وصف دقيق لمحاسن ودلال وغنج خولة وافتخاره بفروسيته وسخائه وإبائه وعزة نفسه ثم تحسره وعتابه أعمامه وأقرباءه على قسوتهم عليه وحرمانه من ميراث أبيه فاض بهذا المعنى الذي نستشهد به الآن حين نألم من خيانة:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على المرء من وقع الحسام المهند
لا نلوم طرفة على هذه الشكوى الحارة حين ضامه أقرب الناس إليه، وهذه خيانة فرد لفرد وقريب لقريب؛ فكيف بخيانة أفراد أو جماعة لوطن؟!
لست أدري كيف يستطيع الخائن لوطنه الهارب المتشرد في أصقاع الدنيا أن يهنأ بمنام أو يستلذ بطعام أو يهدأ له بال أو يطمئن له قلب وهو بعيد عن أرض ولد فيها وعاش طفولته على ترابها مستظلاً بسمائها مرتويًّا بمائها ممتلئًا بهوائها بين أهله وعشيرته وأصحابه وقرناء طفولته وشبابه؟ كيف للخائن المتشرد أن يقطع أواصر علاقته بوطن تخلقت صلته به وهو في بطن أمه ثم نمت بعد أن مس جلده ترابه حين وضعته مقبلا على الدنيا؟!
لا شك أن هذا المتشرد الخائن التائه في لندن أو في اسطنبول أو في إيران أو في الدوحة أو في أي صقع من هذا العالم يعيش عذابًا نفسيًا فظيعًا لا مثيل له، تعذبه نفسه القبيحة فتأكله أكلاً كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله، ويتظاهر أمام من حوله في صورة خادعة كاذبة ببطولة مزيفة وهو يتهالك يومًا بعد يوم وتتساقط روحه المهدمة ساعة إثر ساعة؛ فيغدو كمدعي الطب الغاش الذي يزعم مداواة الناس وهو أحق بطلب العلاج من مرضه القاتل المزمن؛ وهو الخيانة!
للمتشردين الذين باعوا أوطانهم بخسة ولؤم نقول: الغصن المائل الناشز من الشجرة الخضراء الوارفة سيسقط بعد أن ييبس وتبقى الشجرة الكبيرة المورقة صامدة شامخة جذورها في أعماق الأرض وأغصانها تطاول السماء، ظلها وارف، وثمرها يانع لا تأبه بأغصان متساقطة ميتة يابسة.