حمّاد السالمي
وما دمنا في الكلام على المبادرات الاجتماعية؛ فردية كانت أو جماعية -وقد كان كلامي هنا في الأسبوع الفارط على مبادرة مهرجان البرّ الموسمي في بلّلسمر- اسمحوا لي اليوم؛ أن آخذكم إلى ضفة أخرى مما تزخر به بلادنا من خيرات وفيرة في شتى الميادين، وما تحفل به مجتمعاتنا من همة ونشاط وتفانٍ في العمل المثمر. ذلكم هو الاحتفاء السنوي في أشهر الصيف هذه؛ بالنحل وما ينتجه من أعسال مختلف ألوانها وأنواعها.
بدأت مهرجانات العسل في أماكن انتاجه التقليدية بدءًا بالطائف وليس انتهاءً بالباحة وعسير.. هناك الكثير مما تقدمه وتقوله هذه المهرجانات الموسمية التي يديرها عادة مربو النحل ومنتجو العسل. أن تقديم المنتج والتعريف بهذه الصنعة القديمة قدم التاريخ البشري؛ لا يكفي للاستمرارية والنجاح في هذا الميدان الحيوي. الجميع ممن قابلت وتحدثت إليه؛ ينتظر الدعم والتشجيع من قبل الجهات ذات الصلة في الدولة، ومنها وزارة الزراعة، والهيئة العامة للسياحة.
هذه المناسبة العسلية في الطائف المأنوس؛ جعلتني أعود إلى كتاب: (النحل ونباتات العسل)، الصادر عن الجمعية السعودية للعلوم الزراعية، للدكتور: (ناصر بن إبراهيم الغصن). المؤلف أهداني نسخة منه في صائفة العام الماضي، ووجدت أنه يركز في بحثه العلمي القيم هذا؛ على الطائف كونها الأشهر والأقدم في تربية النحل وإنتاج العسل الطائفي الشهير، ثم هو إلى جانب هذا كله في سبعة فصول رئيسية؛ لم يغفل الجانب التاريخي لهذه الصنعة ومنتجاتها عند العرب والجزيرة العربية تحديدًا، فهي تعود إلى آلاف السنين. إن هذا الكتاب الذي يوثق ويشرح علميًا لصنعة التنحيل في المملكة؛ يعد مرجعًا مهمًا على قلة المراجع في هذا الباب.
العسل معروف لمعظم الناس في كل العالم كمادة غذائية ودوائية مهمة لجسم الإنسان وصحته. لقد أقر العلم الحديث المتوارث الحضاري حول كون عسل النحل مضاد حيوي طبيعي ومقوي لجسم الإنسان -يقوى جهاز المناعة الذي يتولى مقاومة جميع الأمراض التي تهاجمه-، كما أن له خصائص مثبتة في علاج الحروق والجروح وكثير من الأمراض. فقد كان إنسان العصر الحجري منذ 8 آلاف سنة؛ يتناول في طعامه عسل النحل، وكان يستخدمه كعلاج، وهذا ما نجده في الصور والمخطوطات والبرديات لقدماء المصريين والسومريين بالعراق وسورية. وكان قدماء المصريين؛ يستخدمون العسل ليس فقط كغذاء؛ ولكن أيضاً للعلاج والتجميل، وفي التحنيط، ليحافظ على أنسجة المومياوات. وورد ذكره في القرآن الكريم وبقية الكتب المقدسة حتى الصينية والهندية. وكان يستعمل كعلاج للصلع، ولمنع الحمل كلبوسات، والألمان كانوا يستخدمونه لعلاج الجروح والحروق والناسور والتئامها مع زيت السمك، وكانوا يستخدمونه كمرهم ملطف، بإضافة صفار (مح) البيض له مع الدقيق.
ما أشهر البلدان التي تنتج وتصدر العسل..؟ ذكرت تقارير صادرة عام 2005م؛ أن الصين والأرجنتين وتركيا والولايات المتحدة الأمريكية؛ كانوا كبار المنتجين من العسل حسب منظمة الأغذية والزراعة. وإلى اليوم؛ فإن من أكبر المنتجين للعسل: (تركيا)، فهي في المركز الثالث عالميًا، ثم (أوكرانيا) في المركز الخامس عالميًا، وتعتبر المكسيك من أهم المنتجين للعسل الطبيعي، حيث تنتج ما يعادل 10 % من الإنتاج العالمي.
نعود للطائف المأنوس.. حيث تركز بحث صاحب الكتاب عليها بشكل أساسي تاريخًا وبيئة وتميزًا، فعسل الطائف كما نعرف أو لا نعرف؛ حصد الجائزة الذهبية والمركز الأول في مسابقة مونديال النحل العالمي، الذي أقيم في كوريا الجنوبية العام 2015م في مدينة (دايجون) بموقع (DCC)، التي تضمنت أكثر من 100 مشاركة عالمية كبيرة لأكبر منتجي ونحالي العسل من مختلف دول العالم، واشتملت المسابقة وقتها؛ إقامة معرض لمعدات النحل وأجهزة التحليل والعسل، وقاعة للمحاضرات والأبحاث العلمية.. بعد ذلك.. ما مكانة الطائف والمملكة عمومًا بين منتجي العسل في هذا العالم..؟ الواقع ليس هناك ما يفيد عن ذلك.
تابعت في وقت سابق؛ ما تقوم به جمعية النحالين في الطائف من جهود ونشاط، وشدني الكلام من خلال بعض أعضائها على قضية تؤرق المستهلك، وهي الغش في العسل، ودخول السكر كمكون في المنتج، وكذلك خلطه مع أعسال مستوردة قليلة القيمة. كيف تعرف العسل غير المغشوش من المغشوش..؟ هذا سر أحتفظ به لنفسي.
هناك إشكاليات كثيرة في هذا الجانب.. من بينها: غش النحلة نفسها، التي تترك زهر الشجر، وتلاحق قوارير المشروبات الحلوة المرمية على الطرقات لتمتص سكاكرها..! ومنها الحرب التي يشنها النحل المصري كبير الحجم على النحل السعودي في مقاره، بحيث يقتله ويحتل مكانه..! ومع ذلك نحن نشتري من مصر نحل إنتاج بحوالي (80 مليون ريال).. حسب بعض الأخبار أخيرًا.
ومن طرائف النحل في الطائف؛ وجود نحل مهاجر: (جاوي- إندونيسي) صغير الحجم جدًا -ما علاقة النحل الإندونيسي بالإنسان الإندونيسي..؟!- ينتشر في الحدائق وحول الدور، يبني بيوتات شمعية، لكن بدون عسل جيد.
كيف تعرف النباتات من طعم العسل الذي تتذوقه..؟ هذا يتوقف على معرفتك أولاً بهذه النباتات. يقول (معتوق الخالدي)؛ نحّال وعسّال بالطائف: أفضل العسل ما كان من: (الضُّرُم، والطُّبّاق، والشَّرم، والسَّحاة، والسَّمرة، والطَّلحة، والضَّهيا، والقَتادة، والمَجرى، والضَّرَبة). وهذه كلها تتوفر بالطائف.
في الختام.. لنا في العلاقة الحميمة بين النحلة والنبات؛ عبرة وحكمة قلّ فينا من يدرك كنهها. عمل دؤوب، وعطاء متبادل، وإيثار ليس بعده إيثار. وصدق الشاعر في قوله:
ما يتوب النّحل من قطف الرحيق
ولا يعيب الورد لو كثر النحل
وبـ النهاية.. كل حي وله رفيق
ينعرف طيب الزهور من العسل