إبراهيم عبدالله العمار
قبل بضعة أيام، توفيّت جدتي منيرة.
كانت بمثابة أم أخرى لنا، حتى إني وبقية الأحفاد منذ الصغر وإلى الآن لا نعرفها إلا باسم ماما منيرة، وكان الاجتماع الأسبوعي في بيت ماما منيرة من أمتع أوقاتنا، فقد كان بيتها يجمعنا دائماً، وصلة الرحم هذه المستمرة ليست إلا واحدة من حسناتها الكثيرة، وإني لا أزكي على الله أحداً لكني أحسب أن هذه المرأة الصالحة أتت من جيل الصحابة، فما عرفتها إلا وهي من أكثر الناس طاعة لله، وأبعدهم عن الغيبة والنميمة، لا تَذكر الناس إلا بالخير ولا ترى إلا جانبهم الطيّب، لديها من الحب والعطف ما يكفي كل أهل الأرض اليوم، وقد أغدقته على أبنائها وأحفادها بلا حساب، لكن ليس تدليلاً مفرطاً، بل جمعَت معه الحزم والتربية الجادة. لما توفي جدي -رحمه الله- قبل بضعة عقود لم تتزوج جدتي -رحمها الله-، بل تفرَّغت لتربية أبنائها وبناتها، وإني أنظر اليوم لبعض النساء ممن لديها طفل أو طفلين وتعجز عن السيطرة عليهم رغم وجود الخادمة وأتعجب من قوة وصبر جدتي التي ربّت 8 وحدها. شيء كهذا يتطلب نفساً وروحاً من العزيمة والجَلَد بمكان، ولا أظن بعض أقوى الرجال يستطيعون ذلك.
إني لا أزال أجد صعوبة في استيعاب رحيلها، وكلمات الرثاء والعزاء تظل مستنكرة داخلي، فرغم أن عقلي يقول إنها ذهبت إلا أن نفسي تصر على تكذيب ذلك، ربما لأني قضيت وقتاً كثيراً منذ طفولتي في كنفها، ولم أجد اختلافاً في حنانها سواءً كنتُ ابن 5 سنين أو 35، ولو أنها صارت أقل عطفاً وأكثر انعزالاً لما لُمتها، فقد ألمّت بها الأسقام لسنين طويلة، بدءاً بالسكري وامتد ذلك لأمراض أخرى أفقدتها بصرها وحركتها، ومع ذلك لم تتشكّ أو تتذمّر، بل ظلت شاكرة صابرة، تضحك معنا وكأنها بكامل صحتها. لما فقدتْ قدرتها على الحركة كان أكثر ما آلمها أنها لم تعد تستطيع السجود، ولما ذهب بصرها لم تشتكِ إلا أنها لا تستطيع قراءة مصحفها، وقد كانت لا تقرأ ولا تكتب فتعلّمت ذلك في الخمسينات أو الستينات من عمرها، فسبحان الله الذي يخلق من هذه النوعيات العظيمة باستمرار.
وداعاً حبيبتي ماما منيرة، بل إلى اللقاء، جمعنا الله في مستقر رحمته، وجعلك تتبوأين مكانك في جناتٍ ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.