د. فوزية البكر
يحار المرء حين يلاحظ مثلي (وكما أتوقع أنكم لاحظتم أيضاً) كيف أن الكثير من أمهات اليوم الشابات يتعاملن مع أطفالهن في كافة احتياجاتهم اليومية عن طريق اللغة الإنجليزية وليس اللغة العربية كما قد نتوقع في بلاد تعتمد هذه اللغة كلغة رسمية عدا عن أنها لغة القرآن الكريم. بالطبع فوجود العاملة المنزلية التي لا تتحدث العربية يساعد في الانخراط في هذا المسار إضافة إلى أن كافة المواد المسلية مقروءة أو مسموعة أو مشاهدة والموجهة للطفل معظمها ناطق باللغة الإنجليزية مع الأسف.
لست ضد تعلم الطفل لغات أخرى وليست لغة واحدة فقط فالأبحاث العلمية أثبتت قدرات كبيرة للأطفال الصغار في هذا المجال وفوائد ذلك لا تحصى على النمو العقلي والرياضي للطفل، بل إني في كثير من المقالات والبحوث المنشورة كنت من أول المنادين بإدخال اللغة الإنجليزية كلغة ثانية إلى التعليم الابتدائي كما هو حاصل اليوم. لكن ما نراه اليوم هو إهمالنا تعليم أطفالنا السعوديين لغتهم الأولى: اللغة العربية وخاصة داخل الأسرة إضافة إلى ضعف الأهالي والمربيات أصلاً في اللغة الإنجليزية (لأنها أيضاً ليست لغتهم الأم) فينشأ جيل قلق لغوياً وضعيف الهوية ولن يتمكن لاحقاً من تعلم العربية لصعوبتها وصراعها بين اللغة العربية الكلاسيكية المكتوبة واللهجات العامية المحكية مما يزيد الاضطرابات اللغوية لدى الأطفال والمراهقين: رجال ونساء المستقبل.
في محاضرة قدمها العالم اللغوي الفرنسي لويس-جان كالفي في بيروت في فبراير لهذا العام بمناسبة مساهمة مؤسسة الفكر العربي بترجمة كتابه إلى العربية (أي مستقبل للغات؟ الآثار اللغوية للعولمة) تساءل مدير الندوة د. دكاش حول مستقبل اللغة العربية في خضم العولمة الاقتصادية والسوقية وأكد أن اللغة العربية تمر بأزمة تكيف بين الفصحى والعامية المتداولة يومياً مما يبعد اللغة العربية عن السياق الثقافي وعن الحياة اليومية التي يعيشها الناس ويهدد بوجود أزمة هوية في عموم الوطن العربي غير القادر على التحالف سياسياً والتعاون اقتصادياً والإنتاج المشترك بلغة عربية سليمة لثقافة عالمية تناسب زماننا.
ويطرح كالفي في كتابه المهم مسألة موت اللغات معتبراً أن اللغات التي تندثر وتؤشّر لحالات تتلاقى فيها عوامل سياسية، واجتماعية، واقتصادية، ونفسية، لتدفع بالمتكلّمين إلى الاستغناء عنها تدريجياً. وهذا يعني أن الإنسان في علاقته باللغات التي يخلقها ويعتني بها يومياً، يتمتّع بنوع من الحرية، ويتحمّل شيئاً من المسؤولية.
ماذا يعني لنا هذا التحليل؟ أن للغة وظيفة اجتماعية وثقافية ومرتبطة بالوظائف اليومية التي نقوم بها فإذا كانت العاملة المنزلية تغسل يدي الطفل وتقول ذلك باللغة الإنجليزية المكسرة وكذا تفعل الأم حين تأمره أن يرتدع عن شيء ما أو أن تستلطف فعل قام به فتشجعه وكل ذلك يتم في الأغلب باللغة الإنجليزية وإن حدث أن تحدث معه أحد ما بالعربية فستكون بالعامية فأي مستقبل منظور نتوقعه إذن للغتنا العربية في أذهان الناشئة؟
علينا قبل أن نقرر الدفاع عن اللغة العربية وحمايتها من التشتت والضياع في أذهان الناشئة أن نتعرف على درجة وظيفتها لهم في حياتهم اليومية بطرح أسئلة مثل: ما مدى اتساع وجذب المحتوى الإنترنتي المكتوب بالعربية للناشئة مقابل ما هو مطروح باللغة الإنجليزية؟ هل يعي الأهالي فعلاً خطراً محدقاً باللغة العربية من خلال عمليات التنشئة الاجتماعية التي يقومون بها تلقائياً غير مدركين لحجم مساهمتهم الجماعية في ضياع اللغة العربية؟
نحن بحاجة إلى مشروع وطني لإعادة تحبيب الأمهات والأطفال والمراهقين للغتهم العربية تتولاه مؤسسات ذات علاقة مثل بعض الجامعات أو مراكز ذات اهتمام باللغة العربية مثل مؤسسة الملك فيصل ومركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز لخدمة اللغة العربية الذي أعرف من خلال نشاط الزملاء والزميلات في هذه المؤسسات ووطنيتهم وذودهم عن لغتهم بأنهم سيفكرون بكل ما يمكن من مشاريع واستراتيجيات وطنية تعيد أطفالنا ليتحدثوا مع أقرانهم بلغتهم العربية وليس باللغة الإنجليزية. يجب ألا نهون من خطر هذا الأمر خاصة بين الأطفال من قاطني المدن الكبرى في المملكة ولا يكفي أبداً أن ندرسهم القرآن أو الأحاديث التي لاحظت أنهم فعلاً يحفظونها عن ظهر قلب لكنهم لا يعرفون كيف يستخدمونها في إطار حياتهم اليومية وهذا مطب مخيف يجعل كل الساعات الطوال التي أمضاها صغارنا في دراسة اللغة العربية في المدارس تذهب هباء تحت عجلة الإهمال الأبوي ومطرقة العولمة وثنائية اللغة العربية بين الفصحى والعامية.