«الجزيرة» - كتب - محمد المنيف:
لكل إبداع أجياله، ولكل جيل دوره في مسيرة الإبداع.. والفنون التشكيلية، محلية أو دولية، مرَّت بتلك الأجيال، وما زالت تواصل تكاثرها. ويقدر كل جيل ما يقدمه الجيل اللاحق؛ فلكل زمان ما يفرزه من مبدعين بما يهيَّأ لهم من ظروف وإمكانيات. ونحن هنا في المملكة العربية السعودية ننعم بالكثير من الأجيال في مجال الفنون التشكيلية، بدءًا بجيل مرحلة البدايات في ممارسة الفن بمواهب دعمت بقدرات فطرية. ويقوم من مارس هذا الفن في تلك الفترة بالرسم والنحت حسب ما يجده من أدوات بدائية أيضًا. وكان اهتمام محترفي هذا الفن ينصب على الأشكال التزيينية، إما بالنقش على الأبواب، أو حفر ونقش الزخرفة على الجص.. والبعض يرسم الطبيعة والمجتمع بأسلوب الفن (الساذج) أو الفطري دون تقيد بالقيم الفنية أو معايير العمل الفني الأكاديمي إلا ما ندر.. إلى أن أتت مرحلة التعليم، وأُدرجت مادة التربية الفنية التي أسهمت في تشكيل مجتمعات من الأفراد الميالين والموهوبين في الفن، تلقوا تقنياته في مراحل متقدمة كمعاهد المعلمين، أو معهد التربية الفنية؛ إذ كان هناك معلمون فنانون من دول عربية، سبقت المملكة في هذا المضمار. وقد مرَّ الحراك التشكيلي السعودي بالعديد من المراحل، وبالكثير من الذين مارسوا هذا الفن، وجميعهم إلا ما ندر - والنادر هنا في حكم الغائب غير المؤثر - ممن تلقوا دراستهم الأكاديمية في الفنون التشكيلية، وخصوصًا دراسة الرسم والتلوين على أصوله من أكاديميات عالمية. نقول جميعهم ينقسمون إلى فئات؛ فمنهم من تلقى تعليم التربية الفنية، وكان من بينها محاضرات، وتطبيق لتكوين اللوحة، إلا أن غالبيتهم هُيئوا لتدريس مادة التربية الفنية؛ ولهذا فالقليل منهم من كان ممتلكًا للموهبة، وأكملها بالممارسة والبحث عن تطوير الذات بذاته. أما الفئة الأخرى فهي الموهوب الذي دعم موهبته بالاطلاع وحضور الدورات والسفر وزيارة مراسم عربية أو عالمية، مع ما جد من سبل التعلم في الإنترنت ومواقع الفنانين العالميين على اختلاف الأساليب.
مرحلة تشكُّل البنية التشكيلية السعودية
تلك المقدمة تسبق ما يمكن التطرق له باختصار لما نحن بصدده اليوم، وعبر هذه الصفحة المختصة بالفنون التشكيلية؛ كونها من أكثر الصفحات استدامة ورصدًا لواقع هذا الفن منذ انطلاقته عام (1976م - 96هـ)، وخصوصًا في هذه الفترة التي يخشى التشكيليون الأوائل من ضياع دورهم فيها. وأهم من ذلك الفنانون الراحلون الذين شاركوا وأفنوا حياتهم في تقديم إبداع، شكّل الجسد التشكيلي السعودي في فترة لم يكن فيها أدنى مستوى من الاهتمام المجتمعي، وقليل من الاهتمام الرسمي الذي يشوبه الكثير من الشوائب، أهمها عدم وجود استراتيجية مدروسة لضمان مستقبل هذا الفن مبنية على قواعد بيّنات، ومتاحف توثق المراحل، ومستودعات لحفظ اللوحات مهيأة بسبل الحفظ كما هي في متاحف العالم.. فلم يعد هناك أي أثر للوحات تمثل ألف باء انطلاقة هذا الفن في المملكة نتيجة الإهمال، وعدم وعي من يقوم على الفنون التشكيلية في إدارات تتبع مؤسسات كُلفت بهذا الفن.
مرحلة ريادة التأسيس
يختلف الكثير على أضلاع الريادة؛ فمنهم من يعتبر أن الريادة يمثلها من يُبقي أسلوبًا يتداوله مَن بعده، وآخرون يرون أن أوائل من شارك في انطلاقة هذا الفن رواد بدايات أو رواد تأسيس.. وهنا نتفق مع الأخيرة؛ فلهم الحق أن يعدوا روادًّا وقدوة؛ يستحقون بها التقدير والاحترام. وقد شهد الحراك التشكيلي السعودي عددًا كبيرًا من هؤلاء، قدموا أعمالاً لا تقل بأي حال عمن سبقوهم من الفنانين العرب مهما كان بها من مشابهة أو تقليد في بدايات المرحلة.. إلا أن أكثريتهم تجاوزوا تلك الحالة، وأصبحت لهم أساليبهم وهويتهم الخاصة؛ فواصلوا التحرك والعمل والمشاركة إما بشكل فردي لمن سنحت لهم الفرصة للسفر والعرض، أو من خلال وجودهم طلابًا لدراسة الفنون خارج الوطن، أو باستجابة للمشاركة في الفعاليات الثقافية التي يدرج فيها الفن التشكيلي عبر مؤسسات رسمية معنية بهذا الفن، وصولاً إلى ما يتم من مسابقات دولية، حقَّق فيها العديد من أولئك الرواد جوائز متقدمة.
مَن المسؤول عن إبداعات التشكيليين الراحلين؟
وبعد تلك الإشارة المختصرة عن واقع الفن التشكيلي السعودي نعود للموضوع وبيت القصيد، وهو التشكيليون الراحلون الذين كانوا - وما زالوا - جزءًا ممن أسهم في تأسيس هذا الفن، وأصبح بعضهم في دائرة النسيان، والبعض ما زالت أسماؤهم دون أعمالهم تتردد في الساحة فيما يُكتب أو يُطرح في ندوات.. وهذا بالطبع لا يكفي ولا يمثل جزءًا من وجوب تكريمهم وإبقائهم في ذاكرة التاريخ؛ فبعض أسرهم يسعى لبيع أعمال آبائهم، وآخرون لا تسمح ظروفهم المادية بإنشاء متاحف أو معارض.. وهذا أمر يشير إلى ضياعها مع ما نتوقع من عدم وجود سُبل للحفظ؛ فقد تتعرض للتلف.
ومن هؤلاء - على سبيل المثال - الفنانون عبدالحليم رضوي، محمد موسى السليم، عبد العزيز الجريوي، عبد الجبار اليحيا وعبدالعزيز الحماد.. وهم من يجب وصفه برواد البدايات؛ ولهم الفضل في نشر الفن التشكيلي السعودي في المملكة، والتعريف به وصولاً إلى العالم، إضافة إلى كل من الفنانين عبدالله العبداللطيف، منصور كردي، خالد العبدان، حمد المواش، فؤاد المسعود، فهد الحجيلان، أحمد الزهراني، ضيف الله القرن، هاشم سلطان، محمد العمير، زهير إحسان، محمد سيام، محمد الصندل وعلي الدوسري. وهؤلاء قدموا الكثير، وأسهموا في إقامة المعارض داخل الوطن، ومثلوا الوطن في الخارج.
إسهامات طواها النسيان.. وندوات غير موثقة
لا شك في أن هناك جهودًا قام بها العديد من المؤسسات والأفراد من أجل استعادة جهود الراحلين إلا أنها لم ولن تغني عن إيجاد اهتمام أكبر لهم؛ فالندوات التي أُقيمت، أو المعارض التي تم إشراك لوحات للراحلين فيها، لم يعد لها ذكر أو توثيق كما يجب أن تكون؛ ولهذا فما يُنتظر هو دعم أو تكريم لهم بما يساوي أدوارهم، ورصد تجاربهم وقراءتها، والتعريف بها بلغات عدة لإيصالها إلى العالم.
جهد مشكور للفنانَيْن أحمد فلمبان وفؤاد مغربل
في الختام لا ننسى الجهد الذي قام به الزميلان الفنان أحمد فلمبان والفنان الدكتور فؤاد مغربل بإصدار كتاب، تضمن تعريفًا لسيرة كل من له دور في نشأة الفن التشكيلي من الراحلين - يرحمهم الله - بدءًا بالتربويين مؤسسي وواضعي أول منهج للتربية الفنية، مرورًا برواد الفن التشكيلي الراحلين -يرحمهم الله- وجيل الشباب.