د.عبد الرحمن الحبيب
أظهرت المفاوضات التي يديرها الرئيس الأمريكي أنها تعمل بآلية الصفقات «الصفرية» مع فتح منفذ مغر للآخر كي يقبل الصفقة: حيث يعلن أقصى درجات المواجهة وبنفس الوقت يفتح باباً لمكافأة مجزية للآخر إذا قدم تنازلات تحقق أهم المطالب الأمريكية، وليس شرطاً كلها. هذه الطريقة التفاوضية تتوعد بأقسى التهديدات بما لم يسبق للصقور الجمهوريين أن هددوا به، لكنها تمنح مكافآت بما لم يسبق للحمائم الديمقراطيين أن قدموه..
إنها سياسة العصا والجزرة بأشد معانيها، سياسة تعتمد على النتائج بلا مقدمات دبلوماسية أو تنميق بلاغي. لذا فإن العرض الذي قدمه ترامب باستعداده للقاء القادة الإيرانيين «دون شروط مسبقة وفي أي وقت أرادوه»، ليس مفاجئاً ولا متناقضاً وإن بدا للبعض كذلك. فإذا كان ترامب قرر المواجهة الحادة مع إيران بالانسحاب من الاتفاق النووي قبل شهرين، وما شملها من عقوبات اقتصادية هي «أشد العقوبات صرامة في التاريخ»، ووضع اثني عشر شرطاً للعودة لاتفاق جديد، فهو في ذات الوقت أوضح أنه «مستعد وراغب وقادر» على عقد «صفقة جديدة ودائمة» مع القيادة الإيرانية الحالية إذا عدلت من سلوكها العدواني. هذه الصفقة الجديدة ستشمل ليس فقط نهاية العقوبات الأمريكية، بل ترميم العلاقات كاملة، والوصول للتكنولوجيا المتقدمة والدعم الأمريكي لتحديث الاقتصاد الإيراني المتهالك وإعادة دمجه في الاقتصاد العالمي، بما لم تسبقه لذلك أية إدارة أمريكية، كما يذكر الباحث الإستراتيجي الأمريكي جون هانا (مستشار سابق في الأمن القومي).
السؤال ما هو الرد الإيراني؟ الرد الإيراني العاجل أتى من جهتين.. الأول من الدبلوماسية الإيرانية عبر مستشار الرئيس الإيراني، حميد أبو طالبي، الذي اشترط عودة أمريكا للاتفاق النووي مع بلاده قبل بدء أي محادثات. أما الرد الثاني فكان عنجهياً من قائد الحرس الثوري قائلاً لترامب: «إن أمنياتك باللقاء ستأخذها معك إلى قبرك..» مؤكداً رفض أي مسؤول إيراني لقاء أي رئيس أمريكي.. هكذا بالمطلق: «وحتى رؤساء الولايات المتحدة الذين سيأتون بعدك لن يروا هذا اليوم.» مما يذكرنا بوصية الخميني التي نصت بأن إيران في حالة حرب دينية مقدسة مع دول الشرق والغرب، وبالأخص مع أمريكا. أما الرئيس الإيراني فلم يعلق حتى كتابة هذه السطور، وكأن قائد الحرس الثوري هو الرئيس!
بيد أن مثل هذه الردود هي آنية غرضها المناورات الكلامية لادعاء القوة للخارج ولتغطية الأزمة المستشرية في الداخل. فالأزمة الخانقة التي تمر بها إيران نتيجة العقوبات الأمريكية المنتظرة تجعل من الممكن التوقع أن الردود اللاحقة ستكون مختلفة لأن النظام الإيراني في مأزق حاد وسيسعى لتجنب العقوبات ونتائجها القاسية. لكن أقطاب النظام الإيراني في حالة ارتباك وخلاف بين مؤسسة الرئاسة والبرلمان من جهة وبين الحرس الثوري من جهة أخرى، حيث يرفض الأخير العودة للتفاوض بالمطلق بينما تؤيد الأولى التفاوض شريطة العودة للاتفاق النووي.
فما هي إمكانات عقد اللقاء بين الرئيسين الأمريكي والإيراني على منوال ما حصل مع رئيس كوريا الشمالية؟ حتى الآن يبدو اللقاء بعيد الاحتمال، فلقد كرر المسؤولون الإيرانيون أن إيران ليست ككوريا الشمالية.. وهذا صحيح، ولكن ليس بما يزعمونه، بل من نواح أخرى، فالرئيس الحالي لكوريا الشمالية وأبوه وجده، سبق أن أعلنوا مراراً الرغبة في لقاء رئيس أمريكا شريطة الاعتراف بنظامهم، بينما النظام الإيراني الحالي بأيديولوجيته المتحجرة يعتبر عداءه لأمريكا وجودياً وأزلياً. يقول ديفيد بولوك الباحث بمعهد واشنطن: «من شبه المؤكد أن يرفض السيد خامنئي عرضاً للقاء السيد ترامب، لأن أيديولوجيته مبنية على مقاومة «الغطرسة العالمية» الأمريكية.. خامنئي ليس كيم جونغ أون، ومن المرجح أن يفعل كل شيء تقريباً لتجنب لقاء السيد ترامب.. لكن احتمال مثل هذا الرفض هو سبب إضافي يجب أن يدفع الولايات المتحدة إلى تقديم مثل هذا العرض، لأنه سيُظهر للشعب الإيراني والعالم بأسره من هو صانع السلام الحقيقي.. ويُظهر للشعب الإيراني الأولويات الحقيقية لزعمائهم..»
كما أن خطورة كوريا الشمالية النووية أكثر بمراحل من إيران؛ لأن بيونغ يانغ طوّرت ترسانة نووية وصواريخ تعرّض أمريكا للخطر، بينما خطورة النظام الإيراني ليس في قوته المباشرة، بل في النشاط التخريبي لوكلائه في المنطقة وتهديد المصالح الأمريكية.. وهناك فارق آخر هو أن الأزمة مع كوريا الشمالية تكاد تنحصر في التهديد النووي، بينما الأزمة مع النظام الإيراني متعددة الجوانب، فإضافة لما ذكر فالنظام الإيراني يشكل مشروع ثورة طائفية واضطرابات وليس دولة تنمية واستقرار، وتعتبرها الإدارة الأمريكية أكبر داعم للإرهاب في العالم، وإيران هي أكبر مَصدَر لغسيل الأموال بالعالم حسب مؤشر بازل الدولي..
ماذا لو حدث اللقاء، فما الذي يريده ترامب من إيران؟ ثلاث مسائل رئيسية: تحجيم برنامجها النووي، الحد من نفوذها الإقليمي في العراق ولبنان وسوريا واليمن ووقف محاولات زعزعة الاستقرار في الخليج، وقف نشر الصواريخ الباليستية المهددة لاستقرار المنطقة. يقول جون هانا: «إذا لم تستجب إيران، فستحتاج أمريكا إلى أن تكون مستعدة لمواصلة الضغط حتى يتمزق النظام، أو تُطيح به انتفاضة شعبية، أو توجد خليفة أكثر اعتدالا.»