«الجزيرة» - حبيب الشمري:
فجأة بلا مقدمات.. بدت صالة التحرير في الجزيرة أمس، واجمة، يلفها الصمت، بعد أن فقدت رجلاً كان طوال 40 عاماً، محركاً لأحداثها كل صباح، بتقاريره، وكلماته، وضحكاته، وقفشاته، ومتابعاته، وأخباره التي كان لا يغادر المبنى إلا وهو متأكد من نشرها. أمس كنا نتفادى المرور أمام كرسيه، ومكتبه وأوراقه، ودفتر هواتفه، كأنها تنادينا، وكأن روحه متعلّقة بها.
غادر الرجل النقي الطيب، الإعلامي الملتزم، الإنسان البسيط.. لم يبحث عن المناصب ولا الشهرة، ولا المكاتب الفاخرة، كان يحمل قلماً، ووريقات يدوّن فيها أخباره، يضعها على المطبعة فيغادر إلى بيته هادئاً. كل صباح يبدأ أبو بدر رحلة العمل بطريقة فريدة في متابعة الصحف المحلية، يرصدها بعين الخبير، يؤشر على خبر هنا، وعلى صورة هنا، يستقرئ الأحداث بشكل نادر، ينبهنا دائماً على قصة لافته هنا، وعلى مقال هناك.. أحياناً يستشف أحداثاً معينة من خلال متابعاته.
ظل عبد الرحمن المصيبيح طوال سنوات حريصاً على عمله، مواظباً على الحضور المبكر، وحضور كافة المناسبات والفعاليات التي يكلّف بها، وقد بنى شبكة علاقات واسعة مع الأمراء والمسؤولين والوزراء، وكان العلامة الفارقة في العمل الميداني، بل كان المرجع لجميع الزملاء في الصحف المحلية.
يجمع الزملاء كل خميس في مقر الجريدة على قهوته التي يحضرها من منزله، ويحرص على حضور كل العاملين في الجريدة لحدث اعتبرناه مسجلاً باسمه، يذهب للزملاء في مكاتبهم طالباً حضورهم في تواضع جم يُخجل الذي يتعامل معه.
العمل الآخر الذي دأب أبو بدر على المداومة عليه، مساعدة المحتاجين، فهو يأتي في الصباح ليفتح دفتر التليفون ويبدأ رحلة المساعدة، وقد كنت أسمعه دائماً يتحدث مع مسؤولين في شفاعة لعاطل يبحث عن عمل، وقبول طالبة محتاجة في مدرسة أو جامعة، بل إنه يذهب إلى الموسرين لعرض حالات إنسانية عليهم، وقد وقفت على بعضها، وسمعته يبحث لهم عن حلول.
منذ عدة أشهر لم يعد أبو بدر ذات الشخص الضاحك، فقد أصيب ابنه مشعل في حادث مروري شنيع، ولا يزال يرقد في المستشفى، كان عبد الرحمن المصيبيح صابراً، وداعياً له بالشفاء. كنت أسأله وأتواصل معه هاتفياً للاطمئنان على مشعل، فلم أسمعه إلا محتسباً. خلال الشهرين الأخيرين، أثَّر مرض السكر عليه، وظهر ذلك عليه، رغم ذلك يحاول بين الحين والآخر التماسك، وطمئنتنا. في إجازة عيد الفطر الماضي، بادرني بالمعايدة هاتفياً، حيث كنت أقضي إجازة في حائل، سألني عن الأجواء، والشوق إلى حائل، وقبل إنهاء المكالمة دعاني لحضور زواج ابن شقيقه هناك، سألته إن كان سيحضر فقال إنه لا يستطيع ترك مشعل في المستشفى. رحم الله الرجل النقي عبد الرحمن المصيبيح، وأدخله فسيح جناته.